موفق محادين*



قبل الحديث عن الدور البريطاني في إنتاج الصهيونية غير اليهودية، ثم الصهيونية اليهودية، يشير إيلان هاليفي في كتابه "المسألة اليهودية" إلى بوادر سابقة إسبانية ثم فرنسية ظهرت بعد التسوية التي أجراها ملوك إسبانيا لوقف ملاحقة اليهود والسماح لهم بالتنصر مقابل مساعدة إسبانيا في الحملات الاستكشافية الاستعمارية وتمويلها.

كما ظهرت على لسان نابليون الأول ودعوته اليهود إلى الاستيطان في فلسطين عام 1799، ثم على لسان نابليون الثالث ومرافقة آرنست لاهاران 1860 الذي دعا إلى ما سماه إنشاء القومية اليهودية رداً على صعود الدور المصري وإقامة كيان يهودي في فلسطين من السامرة حتى السويس تحت الحماية الفرنسية.

الأهداف الاستعمارية السابقة كانت أكثر وضوحاً عند بريطانيا وعبر أكثر من محطة:

- عندما دعا كرومويل بعد قيادته الثورة اللوثرية إلى التعاون مع اليهود وإعادتهم إلى بريطانيا وتنظيم استيطانهم في فلسطين.

- عندما طالب اللورد شافتسبري (1801-1885) بهذا الاستيطان وطلب من نائب القنصل الإنكليزي في القدس توفير كل شروط الاستيطان اليهودي في فلسطين.

- دعوة بالمرستون رئيس وزراء بريطانيا لتوطين اليهود في فلسطين.

- شرع اللورد ميتفورد 1845 في توطين اليهود في فلسطين على شكل كيان تحت الوصاية البريطانية، وبغرض المساعدة في الحفاظ على المصالح البريطانية في شركة الهند الشرقية وشرق المتوسط.

- مشروع هنري تشرشل الذي دعا إلى السيطرة على سوريا وإقامة مستوطنات يهودية في جنوبها، ويقصد فلسطين وشرق الأردن، وبحيث تتحول إلى كيان على ضفتي نهر الأردن.

- مشاريع لويد جورج (رئيس وزراء بريطاني أسبق) ومشروع جوزيف تشمبرلين، وكان يشغل منصب وزير المستعمرات البريطانية.

اليهودية والمسيحية

في رأي مغاير لما هو شائع، أعتقد أن لا علاقة إطلاقاً تربط العهد الجديد المسيحي بالعهد القديم التوراتي اليهودي، فالمسيحية ولدت في بيئة زراعية نهرية شمسية، فيما ولدت اليهودية في بيئة صحراوية ليلية رعوية، ولم تهتم بالابن ضمن التثليث المعروف عند المسيحية.

إضافة إلى ذلك، فقد ظلت العلاقة بين اليهودية والإمبراطوريات المسيحية علاقة تنافر وصراع وصلت إلى الحد المعروف خلال محاكم التفتيش الكنسية، ولم تأخذ شكلها الحالي إلا في الثورة اللوثرية والتسوية المعروفة لغايات التمويل اليهودي للحملات الاستعمارية للرأسمالية الأوروبية، وما نتج منها من يهودية مسيحية ومسيحية صهيونية غريبة عن حقيقة الإيمان المسيحي.

عربياً، ومنذ عهدة القدس بين المسلمين والمسيحيين (لا يدخل إيليا، أي القدس، يهودي واحد)، والمسيحيون العرب كما المسيحيون في كل العالم في صدام مع اليهودية، وهو الصدام الذي تجلى في دور المسيحيين العرب القوميين في النهضة العربية ضد الاحتلال العثماني الذي كان اليهود يديرون ملفاته المالية منذ هروبهم من الأندلس، وتواصل هذا الصدام بسبب العلاقة الوثيقة بين وعد بلفور واتفاقية سايكس-بيكو وتصاعد المقاومة العربية ضدهما، وكان الحضور القومي المسيحي واضحاً في هذه المقاومة.

وبخلاف ما هو رائج ووسط تعتيم شديد، كان المسيحيون الفلسطينيون من ضحايا المجازر الصهوينية، وخصوصاً مذبحة عيلبون التي أحرق فيها مجرمو الهاغاناه اليهود عشرات الشبان في هذه القرية.

يهود غربيون ضد اليهود العرب والشرقيين

مما يذكره إيلان هاليفي في "المسألة اليهودية" عن الشاعر اليهودي الروسي بيالك قوله: "أمقت العرب لأنهم يذكرونني باليهود الشرقيين"، كما ينقل عن الدكتور تون من الوكالة اليهودية قوله: "اليهود الشرقيون وحدهم قادرون على العمل كالعرب"، ويتوقف يشكل خاص عند يهود اليمن في محطات عديدة:

- عندما قدموا (كحجاج) عام 1929، إذ رفض اليهود الغربيون استقبالهم في حي سلوان.

- بعد هجرتهم أو تهجيرهم الواسع من وطنهم اليمن إلى فلسطين، فشلوا في الاندماج مع اليهود الغربيين بسبب عنصرية هؤلاء الذين استهجنوا أي حالة زواج منهم.

اليهود الخزر
أياً كان موقف إيلان هايلفي من هذه الرواية التي تقول إن غالبية يهود العالم (الغربيون) هم من أصول تركية خزرية لا علاقة لهم أبداً بفلسطين، كما يذكر يهودي آخر هو كوستلر في كتابه "إمبراطورية الخزر"، إلا أن هاليفي يلقي الشكوك على مصدر هذه الروايات قبل أن يدخل في سجال معها، ومن ذلك:

- الخزر اسم تركي لقبائل تركية بدوية جوالة عاشت في منطقة الخزر (بحر قزوين). وقد تحوّل ملكهم بولان إلى اليهودية (القرائية) في القرن السابع.

- هذه المملكة البدوية التي نشأت في موقع إيتيل قرب فروع لنهر الفولجا، وظفت كدولة عازلة لبيزنطة وغيرها.

- سكان هذه المنطقة جزء من المجاميع التي كانت تعرف بالكيساك أو كازاك (القوازق)، وربما الكازاخ.

- بحسب شاعر وفيلسوف يهودي قرطبي (يهودا هاليفي)، كانت هناك رسائل بين المستشار اليهودي للخليفة الأموي في قرطبة ويدعى حسداي بن شبروط ومستشار ملك الخزر ويدعى يوسف. ومما جاء في رسالة الأخير إلى الخليفة الأموي: "إننا نحمي مصبّ النهر، ولن نسمح للروس بغزو أرض العرب"، داعياً إلى التعاون بين المملكتين الأموية والخزرية.

بخلاف هذه الرواية، سواء عند يهودا هاليفي أو إيلان هاليفي، فإن ابن فضلان في رحلته الشهيرة إلى ملك البلغار، في العهد العباسي، يتحدث عن تحالف بين الخليفة العباسي وملك البلغار ضد ملك الخزر.

اليهود والعرب محطات تاريخية

عرف العرب اليهودية قبل ظهور الإسلام والمسيحية، فمن البيئة الأولى لليهودية بين الشرق العربي ومصر إلى انتشار اليهودية في الدولة الحميرية اليمنية والصراع مع الأحباش وروما.

وكان اليهود، كما لاحظ إنجلز (رفيق ماركس)، قبائل بدوية أعرابية لم ترتقِ إلى حضارات العرب والشرق، وشكلوا تراثهم من خليط من الأديان الشرقية في المنطقة ونزعاتها التوحيدية والوثنية معاً، بما في ذلك ما ذكره فرويد عن التأويلات التوراتية لموسى وتأثره بالأخناتونية المصرية.

إضافة إلى الدولة الحميرية وحادثة الأخدود ضد نصارى نجران، يذكر إيلان هاليفي أن يهود يثرب استقروا فيها هرباً من مذابح الفرس في عهد الكاواز kawwaz، وأعطوها اسمها الجديد الآرامي، المدينة (ميدنيتا بالآرامية)، قبل أن تأخذ اسمها الإسلامي بعد دخول الرسول (المدنية المنورة).

وبحسب هاليفي، كان الخلاف السياسي بينهم وبين الرسول أكبر من الخلاف الأيديولوجي بالنظر إلى ثقافتهم الربوية ومناوراتهم السياسية، بل إن يهود يثرب لم يؤسسوا دور عبادة ومؤسسات كهنوتية بقدر ما اهتموا بتجارة المحاصيل والخمور.

ويمكن القول إنه باستثناء الفترة المذكورة، فقد أخذ اليهود لأسباب تجارية يتبعون الإسلام وجيوشه حيثما ذهبت، وانخرطوا في الدولة الإسلامية، وشكلوا مع المسيحيين قوام الإدارة والمالية في البلاط الأموي، وكان دورهم المالي نافذاً في التجربة الأندلسية، وخصوصاً في الفترة الأموية، قياساً بدور أقل في الفترة الأمازيغية (الموحدون والمرابطون المعروفون بالبربر).

أيضاً، باستثناء فترة الحاكم بأمر الله الفاطمي في مصر والشام الذي لاحقهم، فقد ازدهر نفوذهم في العهد الأيوبي الذي أنهى العهد الفاطمي، وبلغ شأن اليهود في بلاط صلاح الدين الأيوبي ما لم يبلغوه طيلة تاريخهم، إذ اتخذ صلاح الدين من الحاخام موسى بن ميمون مستشاراً له وطبيباً لعائلته، إضافة إلى حاخام آخر هو موسى بن نعمان، كما هو معروف دور اليهود في البلاط العثماني بعد هروبهم من الأندلس.

لاحقاً، ومع تواطؤ اليهود مع الغزاة والمستعمرين والعثمانيين، بدأ الصدام بينهم وبين محيطهم العربي، على نحو ما حدث عندما تحالفوا مع سلاطين آل عثمان في اليمن قبل أن تتمكن الإمامة الزيدية من طردهم بعد هزيمتهم الأتراك أيضاً.

ومما يذكره هاليفي أن عائلة روتشيلد وعائلات يهودية أخرى انخرطت في صفوف الاستعمار الفرنسي للجزائر، وقامت بطرد الفلاحين الجزائريين، وحولتهم إلى عمال في أراضيهم.

إشكالية التمييز بين اليهودية والصهيونية

يمكن ويجب التمييز بين اليهودي والصهيوني، ولكن ليس بين اليهودية والصهيونية، فالإنسان يولد على هذا المذهب أو ذاك، وقد يغير مصيره الأيديولوجي لاحقاً في إطار بيئته الاجتماعية والثقافية. أما الفرق بين اليهودي واليهودية، فهو في أن الأول يولد يهودياً، فيما الثانية انتماء صريح وبملء الإرادة لأفكار عنصرية تفتري على الله بالقول إنه جعل من اليهود شعبه المختار، وإنه خلق لهم ومعهم بقية الشعوب الأغيار، الغوييم، وبمستوى البهائم لتخدمهم.

بهذا المعنى، فما من يهودي يقدم نفسه تقدمياً أو إنسانياً أو ديمقراطياً مع تأكيده على الانتماء لليهودية، وكما قال ماركس في كراس "المسألة اليهودية"، لا يمكن لليهودي أن يكون يهودياً وتقدمياً في الوقت نفسه، وذهب ماركس أكثر من ذلك بربط التحرر الإنساني من الرأسمالية والليبرالية المتوحشة بتحررها من اليهودية كأكبر تجسيد للربوية في التاريخ البشري.

وبهذا المعنى، فالصهيونية في المرحلة الرأسمالية امتداد لليهودية، رغم أنها ولدت ما قبل الرأسمالية. والجدير ذكره أن ماركس كتب الكراس المذكور 1943 رداً على اليهودي، برونو باور، الذي رد المسألة اليهودية (وضع اليهود في أوروبا) إلى الطابع الديني للمجتمعات السائدة، فيما رد ماركس ذلك إلى الأساس الطبقي ورأى في العلمانية حلاً برجوازياً ليبرالياً.

إلى ذلك، من السذاجة بمكان اعتبار ماركس "معادياً للسامية"، وهو الذي يتحدر من عائلة يهودية، قبل تحول جده إلى المسيحية.

أما الأخطر في كل هذه الحملة للتمييز بين اليهودية والصهيونية، فهو تأويل محرّف للسيرة الإبراهيمية من أجل توظيفها لتبرير وتسويق التطبيع مع الصهيونية ممثلة بالكيان الصهيوني الذي يحتلّ فلسطين منذ عام 1948، وباستعادة ماركس مجدداً، فإن التطبيع الذي يوظف حوار الأديان يذكرنا بأوهام اليهودي برونو باور في قلب الربوية اليهودية.

يهودية الربا والمصارف

إضافة إلى الجذر الربوي اليهودي الذي مكّن اليهود من اكتناز كميات كبيرة من الذهب، وكذلك السيطرة على إدارة المال في أكثر من إمارة أندلسية، ثم في البلاط العثماني بعد طردهم من الأندلس من قبل الكاثوليك المتشددين، وكذلك سيطرتهم على البنك العثماني في القرن 19، يشار إلى المعطيات التالية:

- توزع يهود الأندلس بعد سيطرة الكاثوليكية الإسبانية بين شمال أفريقيا (اليهود الفقراء ويهود الطبقة المتوسطة) والبلاد العثماني، والأهم هولندا اللوثرية بعد انفصالها عن إسبانيا، وهناك أدوا دوراً كبيراً في إطلاق الرأسمالية الاستعمارية عبر شركة الهند الشرقية الهولندية قبل مثيلتها البريطانية، كما تغلغلوا في كل أوروبا.

- بالتزامن مع ما يسمى الإصلاح الديني اللوثري – الكالفيني، وضع اليهود يدهم على مفاتيح الرأسمالية العالمية، وفق ما كتبه سومبارت في "الرأسمالية واليهودية" وماركس في "حول المسألة اليهودية".

- سيطرة روتشيلد وعائلته منذ قرون على النظام المالي العالمي، ومن ذلك البنك الفيدرالي الأميركي الذي يشرف على إصدار الدولارات ويربط الاقتصاد الرأسمالي بها.

ومعروف أيضاً دور عائلة روتشيلد اليهودية خلال العصر الفكتوري البريطاني في منع مصر من الصعود مرتين: الأولى، في الضغط على بريطانيا لدعم العثمانيين ضد حصار الجيوش المصرية لإسطنبول، والثانية في السيطرة على قناة السويس.

أما في الأزمنة الحديثة، فمعروف كذلك الحضور الكبير لشبكة روتشيلد في المحفل العالمي (بيلدر بيرغ) وسياسات البنك وضندوق النقد الدولي وبرامج الخصخصة والأسواق المفتوحة وسياسة القاتل الاقتصادي المتمثلة في إغراق البلدان بالديون، ثم ابتزازها مالياً وسياسياً.

 

*نقلا عن : السياسية