يبدو أن الرئيسَ الأمريكي دونالد ترامب سيكونُ الرئيسَ الذي على يدَيه ستنتهي القطبيةُ الأمريكيةُ الحاكِمةُ للعالم في ظل إصراره على معاداة حلفاء واشطن في العواصم الأوروبية التي بدورها باتت مؤخّراً تسيرُ في منحنى تصاعُدياً عكس التوجّهات الأمريكية في العالم ومنطقة الشرق الأوسط بعدما وصلت المصالحُ بين الطرفين إلى مفترقِ طرق في كثير من الملفات، بالإضافة إلى أسلوب ترامب المُهين للدول الأعضاء في حلف الناتو الذي تقودُه بلادُه.
الدولُ الأوروبيةُ لم تكتفِ بالتمثيل المتدنّي في مؤتمر وارسو، بما في ذلك بولندا الدولة المستضيفة للمؤتمر، بل وصل بها الحالُ إلى مهاجَمةِ المؤتمر وأهدافه التي تصُبُّ في مصلحة الكيان الصهيوني وتعرِّضُ العالمَ ومنطقة الشرق الأوسط لحروبٍ مدمرة، وهو ما عبّر عنه عددٌ من وزراء الخارجية الأوروبيين، على رأسهم الفرنسي والألماني.
خلال مؤتمر وارسو، أطلق نائبُ الرئيس الأمريكي، مايك بنس، تصريحاتٍ قال فيها إنه حان الوقتُ لأَنْ تقومَ الدولُ الأوروبية بالانسحاب من الاتّفاق النووي الإيراني، لترد الدولُ الأوربية في مؤتمر ميونخ للأمن الذي عُقد عقب يوم من مؤتمر وارسو وتؤكّــد أن الأخيرَ يهدّدُ الأمنَ والسلمَ في الشرق الأوسط مؤكّــدة تمسّكها بالاتّفاق النووي؛ باعتبار أن الخروج منه هو ما يهدّدُ السلامَ العالمي.
الدولُ الأوروبيةُ صمّمت على مواجهة الولايات المتحدة والعقوبات التي فرضها ترامب على الشركات التي ستواصلُ التعاملَ مع إيران، وقامت بإنشاء نظامٍ مالي مستقلّ؛ لمواصلة التعاون الاقتصادي مع إيران؛ تطبيقاً لالتزاماتها بموجب الاتّفاق النووي الذي صادق عليه مجلس الأمن في عام 2015م.
هذا النهجُ التصادُمي لم يكن معهوداً من الدول الأوروبية، لكن فيما يبدو أنه مع وصول ترامب للبيت الأبيض لم تجد تلك الدولُ بُدّاً من التصادم؛ حفاظاً على مصالحها التي تريدُ واشنطن الإضرارَ بها لتلبيةِ رغبات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
عقب مؤتمر وارسو اطلعت على الصحافة الأوروبية والتقارير التي نشرتها كبرياتُ الصحف وكانت كلُّها تهاجمُ المؤتمرَ ومخرجاتِه وتعتبرُه تهديداً للسلام العالمي ولمصالح الاتّحاد الأوروبي على نحو متطابقٍ مع تصريحات المسؤولين الأوروبيين.
ليس ذلك وحسب، فالدولُ الأوروبيةُ أفصحت بشكل علَني خلال القمة التي جمعت المستشارةَ الألمانية والرئيسَ الفرنسي مؤخّراً عن رغبتها في إنشاء جيش أوروبي موحَّد بعدما وجدت دولُ الاتّحاد الأوروبي أن بقاءَها في حلف الناتو لم يعُدْ مفيداً؛ لأَنَّ أمريكا تريدُ أن يظلَّ الحلفُ رهناً لإرادتها ولو على حساب الدول الأوروبية.
أيضاً ليس ترامب هو السببَ الوحيدَ لانهيار الحلف الأمريكي الأوروبي، صحيحٌ أنه فَضٌّ في تعامُله مع الحلفاء ويهوى إهانتهم على نحو علني، غير أن تغيُّر المصالح الاقتصادية وصعودَ قوىً جديدة كانت ستقودُ نحو التصادم مع أوروبا سواءٌ أكان ترامب في البيت الأبيض أَو كان هناك رجل آخر.
ثمة عواملُ أخرى تقودُ النظامَ العالمي الحالي مجبَراً نحو استيعاب المتغيرات الدولية، خصوصاً بعدما وصلت الرأسمالية العالمية إلى طريق مسدود بل وباتت الرأسمالية والعولمة مصدرَ رفض في الولايات المتحدة بعد الصعود الاقتصادي للصين، ولكن هذا الموضوع يحتاجُ إلى بحث آخر؛ لأَنَّ موضوعه طويلٌ ومتشعب.
المهمُّ أننا اليوم نرى العالَمَ يتغيّرُ بشكل ملحوظ، خصوصاً إذا ما نظرنا إلى الحلف الذي فرضته المصالحُ بين روسيا وتركيا وإيران وكذلك التحالف بين روسيا والصين والأخيرة باتت الخصم الأكبر والأخطر للولايات المتحدة وبات الصراع بينهما اقتصادياً وما ينسحب على ذلك من صراع سياسيّ وعسكريّ، هو عنوان المرحلة القادمة، التي تنتهي فيها القطبية الأمريكية.