في الوقت الذي يتصاعَدُ الابتزازُ والغطرسة الأمريكية نشهدُ تراجعاً كبيراً للهيمنة الأمريكية على العالم، غير أن ما يجعلُ ذلك غيرَ ملحوظ في منطقتنا العربية هو وصولُ انبطاح الأنظمة الخليجية للإرادة الأمريكية إلى ذروتها في تناقض عجيب مع وجودِ فُرَصٍ كبيرة أمام الجميع للخلاص من هذه الهيمنة وما يتبعها من إذلال وصل إلى مستوى علني في عهد إدارة دونالد ترامب.
بالأمس وقّعت كُلٌّ من فرنسا وألمانيا معاهدةً قالت عنها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأنها تؤسّسُ لجيش أوروبي، ما يعني أن أوروبا ولأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بدأت تتحَـرّكُ على المستوى العملي للخَلاص من الهيمنة الأمريكية، التي مارستها وتمارسُها الإدارات الأمريكية المتعاقبة عبر حلف شمال الأطلسي أَوْ ما يُعرف بـ “حلف الناتو” الذي كانت تسوقُه واشنطن على أنه لحماية دول الاتّحاد الأوروبي من “خطر الاتّحاد السوفيتي” سابقاً وروسيا حالياً، حيث باتت الدول الأوروبية تدركُ أن تشكيلَ “جيش أوروبا” هو السبيلُ الوحيدُ للتخلص من عبء التحالف مع أمريكا.
ليست أعباء حلف الناتو وحدَها التي دفعت الدولَ الأوروبية للخروج من العباءة الأمريكية لكنها أحد الأسباب، فقد وجدت أوروبا نفسَها على المستوى الاقتصادي واقعةً تحت سيطرة أمريكية مطلقة تجلّت في الصعوبات التي واجهتها الدول الأوروبية عندما حاولت وتحاولُ إلى الآن الحفاظَ على الاتّفاق النووي مع إيران والحفاظ على مكاسبه الاقتصادية، وهي الصعوباتُ المتعلقةُ بتأثير العقوبات الأمريكية على الشركات الأوروبية التي تنوي الاستمرارَ في التعامل مع إيران وعدم الاستجابة لرغبة واشنطن التي أعلنت خروجَها من الاتّفاق الذي حظي بتأييد مجلس الأمن ومنحه قراراً خاصّاً به.
أتذكر أنه حين هدّدت إدارةُ ترامب بتدمير الشركات الأوروبية اقتصادياً، في حال واصلت التعاملَ مع إيران ورفضها طلبات متكرّرة من الدول الأوروبية باستثنائها من العقوبات، خرج وزيرُ المالية الفرنسي في تصريحات قال فيها إن على أوروبا استعادة سيادتها الاقتصادية الخاضِعة للولايات المتحدة، وأظن أن هذا التصريحَ العلني كان هاماً من حيث الاعتراف بمشكلة الدول الأوروبية وكانَ خطوةً هامة دفعت زعماء كبرى الدول الأوروبية لاتخاذ خطوات عملية للخروج من الوصاية الأمريكية عبر تشكيل “جيش أوروبا” بدلاً عن حلف الناتو.
من جانبٍ آخر فإن جُرأةَ الدول الأوروبية في الإعلان عن مساعيها لتشكيل جيش أوروبي تعد أيضاً إشارةً على تراجع الهيمنة الأمريكية فخلال العقود الماضي والسنوات القليلة التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر لم يكن أحدٌ يتوقعُ أن تتجرّأَ الدولُ الأوروبية وتعلن رغبتَها في الانعتاق من قيود الهيمنة الأمريكية، بالإضَافَة إلى أن التوجُّهَ الأوروبي يؤكّــدُ لكل دول العالم بأن الارتباطَ أَوْ التحالُفَ مع الولايات المتحدة باتت أضرارُه أكثرَ من منافعه إنْ كانت له منافعُ أصلاً.
في منطقتنا العربية هناك شعوبٌ في اليمن سوريا والعراق ولبنان قرّرت مواجهةَ الهيمنة الأمريكية وساهمت بشكل كبير في تراجُعِها في منطقة الشرق الأوسط، ولعل ذلك سيمتدُّ في يوم ما إلى دول الخليج إذَا قرّرت شعوبها التخلّص من الأنظمة الأكثر انبطاحاً على وجه الأرض.