ما جرى ويجري في الجنوب ليس انحرافَ مسارٍ، ولا حتى نقطةَ تحوُّلٍ فَرَضَها تحالفُ العدوان، بل هو النتيجةُ الطبيعيةُ للغاية والظروف التي انطلق من خلالها العدوانُ، ومع ذلك فإنه –بالنسبة لنا- أمرٌ يمكنُ البناءُ عليه؛ لفَرْضِ تحوُّلاتٍ كبرى، تَضْمَنُ استقلالَ اليمن وعزَّتَها وكرامتَها ونهضتَها والوصولَ بها إلى مصافِّ الدول القوية والفاعلة في المنطقة.
من أول يوم.. كان واضحاً لكثير من المتابعين أن أهدافَ وغاياتِ العدوان هي إبقاءُ اليمن ضعيفاً، ممزَّقاً، مُسْتَلَبَ القرار والسيادة، يتحَرّك في فَلَكِ المشروع الأمريكي الصهيوني، وعندما خطَّطت أمريكا وأذنابُها لهذا العدوان، كانت قد أسالت لُعابَهم بالغنائم، التي تدورُ حول النفوذ والسيطرة على اليمن مباشرةً، وتأتي على أرضية تمزيق اليمن وتفتيتِه وتقسيمه.
الهدفُ الاستراتيجيُّ لأمريكا هو التمزيقُ والتفتيتُ والتقسيم، وقد حاولت فَرْضَ ذلك عبر مشروع (الأقلمة) من خلال مؤتمرِ الحوار الوطني، لكن ثورةَ 2014م أفشلت هذا المشروعَ، فجاءُوا لفرضِه بالقوة العسكرية، وما من شَــكٍّ أن أمريكا كانت قد وَزَّعَتْ الكعكةَ اليمنيةَ على أدواتها السعودية والإمارات، فأعطت عدنَ وامتدادَها في أبين ولحج وكذلك حضرموت للإمارات؛ ليتمَّ تحقيقُ الهدف الإماراتي بضرب الموانئ اليمنية وعلى رأسها ميناء عدن، وأعطت الشمالَ والمهرةَ وشبوةَ للسعودية؛ للهيمنة على القرار اليمني؛ وليمكِنَها تمريرُ خطٍّ نفطي إلى بحر العرب؛ للخروج من مأزق مضيق هُرمُز، وعلى هذا الأَسَاس شنَّ هؤلاءِ المعتدون عدوانَهم على اليمن.
انطلق العدوانُ بأقوى وأكثر وأوسعِ الإمْكَانات المادية والعسكرية والمالية والبشرية والتقنية، وَبُذِلَتْ جهودٌ جبّارةٌ؛ في سبيل إخضاع اليمن عسكرياً، ورافق ذلك أحلامٌ ورديةٌ وطموحاتٌ أشعبيّة، بُنِيَتْ على أَسَاس من الجهل باليمن وتاريخه وحضارتِه ورجالِه الأحرار، وقوتِه الفكرية والثقافية المُحَرِّكة للمشهد الثوري المعاصر، فإذا باليمنيين الأحرار بعونٍ من الله، وتضحياتٍ هائلة، وعوامِلَ عديدةٍ، يُفْشِلون هذه الأحلامَ، ويبعثرون على العدوِّ أوراقَه وطموحاتِه.
ومنذُ الانعطافةِ الإماراتية فقد عبَّرَتْ عن ضرورة الخروج من الحرب على اليمن بأقلِّ الخسائرِ، وَأَخْذِ ما يمكنُ من الغنائم، ومنذ تحقّق مُعجزة المسيَّرات اليمنية والصواريخ الباليستية والمجنّحة التي تحُطُّ رحالَها في أعماقِ العدوّ بشكل يومي؛ لضربِ مشاريعه الحيوية والاقتصادية والعسكرية فيها، فإن العدوانَ أدرك خيبةَ آماله وانكشافَ حماقاتِه بشكلٍ أَو بآخرَ، وعلى هذا فإنَّ أول النتائج لهذا الصمود كانت ظهورَ حقيقة أطماعهم في اليمن، والتي تم إخفاؤها بين ركام الشعارات الزائفة، وحملاتِ التضليل الواسعة، وما يجري في الجنوب تَجَـــلٍّ من تجليات تلك الحقيقة.
إن ما جرى ويجري في الجنوب هو النتيجةُ الطبيعية للتحَرّك السعودي الإماراتي مع عملائهم ومرتزِقتهم؛ وكون جميعهم لم يكونوا يعملون تحتَ رُؤية واحدة، وضمن هدف موحد، بل كان تحَرّكاً تحتَ تأثيرِ أطماعٍ متعدِّدة، وإنْ كان في مجمله يحقّق الهدفَ الأمريكي، وهو البعثرةُ والتمزيقُ، وعلى هذا تم التحشيدُ للمرتزِقة على الطريقة الإبليسية، وهي المواعدةُ لجميعِهم بأنهم سيحقّقون لهم آمالهم وطموحاتهم، فوعدوا الانفصاليين بفصلِ الجنوب عن الشمال، ووعدوا الإصلاح بتمكينه من الحكم، ووزَّعوا لبقية القوى والأحزاب أحلاماً وردية، كان الكثير يعلم أنها كَذَبَاتٌ بلقاءُ، وأنها في يومٍ من الأيام ستصطدمُ بجدار الحقيقة التي عمل الجميعُ على تجاوزها وإخفائها.
حقيقةُ الأطماع السعودية والإماراتية، ومشروع أمريكا في تمزيق اليمن وتفتيته وتقسيمه، هو ما يفسِّرُ الأحداثَ التي تعصفُ بالجنوب، وَإذَا كان علماءُ اللغة والصرف يزعمون أن التكسيرَ والتصغيرَ مما يرُدُّ الأشياءَ إلى أصولِها فإن الهزيمةَ العسكريةَ كفيلةٌ بإعادة ضبط الأوضاع على حقيقتها، وبِرَدِّ الأمور إلى نصابها؛ ولهذا كشف كُـلّ عن ساقه في الجنوب؛ لإظهار حقيقة أطماعهم؛ استباقاً لمشهد النهاية قبل أن تحُطَّ الحربُ أوزارَها التي تبدو قريبةً في المستقبل المنظور.
وفي سبيل أن تجنيَ الإمارات غنائمَها في المناطق الموعودة بها، سمحت لمرتزِقتها بطردِ مرتزِقةِ السعودية من عدن، لكنَّ وصولَهم إلى شبوة أغضَبَ السعودية، فأمرت مرتزِقةُ بالكرّ من شبوه إلى عدن، ثم تأتي استعادة مرتزِقة الإمارات لعدن وأبين ودخول الطيران الإماراتي خطَّ المواجهة، لتكشف عن تنازع مناطق النفوذ والاحتلال المرسومة سلفا، كُـلّ ذلك كان نتيجة غير مباشرة لانتصارات الجيش واللجان، والتي أعادت الأمور إلى نصابها، فعبَّرت الحقيقة عن تلك الأطماع على ذلك النحو من التخبط والمطاردات المثيرة.
سكوتُ السعودية عن قصف مرتزِقتها الذين هاجموا عدن وأبين، وهي المزعومةُ قائدةً للتحالف، يبيِّنُ ويبرهنُ أن الإدارةَ العليا للعدوان بيد الأمريكان، وأن الأمريكان قد حسموا أمرهم بتقسيم اليمن بين أدواتها.
ومثلما كشفت هزيمة تحالف العدوان عن الأطماع الحقيقية، فإنَّ القصف الإماراتي هو الآخر كشف عن حجم النذالة التي تلفَّع بها مرتزِقة العدوان لمدة خمس سنوات من العدوان، وعلى رأسهم قادة الإصلاح، والذين قد باركوا قصف البلاد طولا وعرضا بمئات الآلاف من الغارات المدَمِّرة، بل واعتبروا ذلك “واجبا شرعيا”، بحسب عبارة الزنداني، وأنه “بأمر الله” بحسب مقولة “صعتر” الشهيرة، ولعل أصدق ما عبَّر عن النذالة تغريدة ليلة أمس، وهي التي جابت آفاق مواقع التواصل الاجتماعي، وردّدها الناس العاديون بل وحتى خطباء المساجد في الجمعة، وكانت موجهة إلى الإصلاح، تقول لهم: “وهل قَصْفُ قواتكم في عدن وأبين كان واجبا شرعيا وبأمر الله أيضا”.
بالأمس أَيْـضاً سمعت وقرأت لكثير من المخدوعين والموجوعين وهم يعبرون عن حجم خيباتهم الفظيعة، فأطلقوا دعواتٍ للحوار مع (أنصار الله)، نكايةً في تحالف العدوان، غير أنّ هذه الدعوات بقدر ما تكشف عن مرارتها، حيث لم نكن بحاجة إلى خمس سنوات من الدمار والقتل والاستباحة لليمن واليمنيين في قضية واضحة مثل العدوان على الشعب اليمني، فإنها أَيْـضاً “توبة فرعونية” جاءت غداة الغرق، وليست إيمانا حقيقيا بضرورة التغير والعودة إلى صف الوطن وأبنائه.
أما ما يفسِّرُ ثباتَ موقف صنعاء، وثباتَ وِجهتها، وقوَّةَ صمودها، وتماسك مجتمعها، ووحدة صفها، فإنه وضوحُ الرؤية لدى أنصار الله وحلفائهم، وعدالةُ القضية، والانحيازُ إلى مصلحة الأمة والشعب، والاستجابة للواجب الديني والشرعي والوطني والمصلحي العام، والاهتداءُ بالهدى الإلهي الذي يأمر بالدفاع عن النفس والعرض والمال والأرض.
واليوم ونحن نرى السفراء والمندوبين العالميين يتقاطرون على وفدنا الوطني في عمان، فإنه – بالتوكل على الله والاستعانة به – من المهم أن نستثمر حالة الردع التي يحقّقها أبطال الجيش واللجان الشعبيّة يوميا بحق المعتدين، وحالة الأطماع التي تكشر عن أنيابها في الجنوب، وليكن العمل على قدم وساق لانتزاع النصر التاريخي والمؤزّر بتحقيق التحولات المؤملة والمتوقعة، وذلك من خلال:
-الاستمرار بقوة وتصاعد في إرسال أقوى المفاوضين اليمنيين، وأفصحهم، وأحذقهم، وأقومهم حجة، وأنصعهم بيانا، وهم (قاصف، وصماد، وقدس، وثاقب، وفاطر، وبركان، وإخوانهم)، والحذر الحذر من أي تراخٍ أَو إعطاء العدوّ نفَسًا في هذا الجانب.
– الاستثمار السياسي اللائق لأحداث الجنوب في فضح الشرعية والاحتلال، وأن هذه الحالة تعبر عن إفلاس العدوان من كُـلّ العناوين التي تم طرحها وإعلان العدوان تحتها، وأن أدوات العدوان في الجنوب ليسوا جديرين بإدارة مزرعة أبقار، فكيف بإدارة وقيادة شعب ذي مشاركة أصيلة في مسيرة الحضارة الإنسانية والإسلامية.
– أحَسَنَ المجلسُ السياسي صُنْعاً بتشكيل فريق المصالحة الوطنية، وعلى هذا الفريق فتح خطوط وقنوات الاتصال بجميع مكونات الشعب، وقواه، وشخصياته المؤثرة والفاعلة، ولا سيما تلك القوى والشخصيات التي لا تشارك رسميا في الصراع القائم، وكذلك المخدوعين الذين كشفت الأحداث لهم صوابية العمل الوطني، والعمل على الحوار معهم، والاتّفاق وإياهم على كلمة سواء، بما يحقّق للوطن حريته وكرامته واستقلاله ونهضته.
– العمل على منع أهداف الاحتلال الإماراتي والسعودي من التحقّق، ووضع الاستراتيجيات والخطط لتحرير كُـلّ أجزاء اليمن، واستمرار الضغط العسكري على المعتدين بالطيران المسير والصواريخ البالستية والمجنحة حتى خروجهم من كُـلّ شبر من هذا الوطن الحر الكريم.
– التوكل على الله والثقة بنصره، فما نؤمن به هو أن التدخل الإلهي الرباني كان هو العنصر الحاسم في هذا الصراع؛ حيث موازين القوة المادية والعسكرية كانت ولا زالت مختلة بشكل واضح لصالح تحالف العدوان، فما الذي منح اليمنيين الأحرار هذه السكينة الخارقة، والثبات الأسطوري، والاستعدادَ العاليَ للتضحية، سوى أنهم ينطلقون من هدى الله، ويعملون على أَسَاس نواميسه الكونية، واهتداءً بآياته التي هي أعلامٌ على حقائق، هداهم الله إليها، وأمرهم بالمسير على ضوئها.
في ملزمة هذا الأسبوع قرَأْتُ كلاما رائعا للشهيد القائد، يمكن أن يفسِّرَ هذه الحالة الإيمانية التي ينطلق منها رجال الله، حيث يقول رضوان الله عليه: “عندما يهدينا الله إلى هذا النّهج، هو يقول لنا: بأنه سيكون معنا أنه سيقف معنا، وعندما يحصل لدينا إيمانٌ بأنه سيقِفُ معنا فلنعلم من هو الذي سيقف معنا، هو مَنْ له ما في السماوات وما في الأرض وإليه تُرْجَعُ الأمور، هو مَنْ يُمْكِنُ أَنْ يُهَيِّئَ، هو مَنْ يمكن أن يَخْلُقَ المُتَغِيَّرات، هو مَنْ يُمْكِنُ أنْ يُهَيِّئَ الظروف، هو مَنْ يمكن أن يُعَبِّدَ الطريق، هو من يهيئ في واقع الحياة المتغيرات التي تجعلكم قادرين على أن تصبحوا – وأنتم تسيرون في هذه الطريق – أن تصبحوا أمة قادرة على مواجهة أعدائكم، على ضرب أعدائكم، على قهرهم؛ ولهذا جاء بعدها (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [آل عمران:109]، أي ثقوا بأني عندما أهديكم إلى أن تسيروا على هذا الطريق أني بيدي ما في السماوات وما في الأرض، أستطيع أن أجعل من يؤيدكم من خلقي،… هو مَنْ يستطيع أن يفتح في هذا الجدار أمامك، فترى كيف يمكن أن يضرب هذا الجدار، كيف يمكن أن يدَمِّرَ ذلك الجدار، الذي ترى نفسَك مَهْزومًا أمامه، ترى نفسَك ضعيفاً أمامه، تراه من المستحيل أن تتجاوزه، من المستحيل أن تعلوَه، من المستحيل أن تهدمه، (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)”.
والله من وراء القصد.