أنس القاضي / #لا_ميديا -
مظفر النَوَّاب ذلك الشاعر الذي حمل اللغة البسيطة المترعة بالعاطفة والجمالية الإبداعية الأقرب إلى اللهجة الشعبية من الفصحى وإلى الوجدان الجماهيري من البلاغة والرمزية المعقدة المعمولة للنخبة. نقل النَوَّاب إلى الشِّعر الأقاويل الشعبية كأحد أساليب الحجاج، وعبرها استطاع أن يعالج قضايا كبرى ويحاكم مواقف انهزامية وخيانية حُشدت لها مختلف التبريرات السياسية والأيديولوجية من قبل الأنظمة العربية الحاكمة والتيارات السياسية يسارية ويمينية.
تفجر النَّوَّاب إبداعاً شعرياً مستخدماً اللغة الحية اليومية. وقد شكل الحزن والاغتراب جزءاً هاماً من شخصيته الشعرية. وقد تداخل الحزن والاغتراب كمحفز عاطفي مع محفز وطني وقومي تمثل في إشكالية الوجود الأجنبي العدواني وضرورة التصدي له ومواجهته. ومع اشتداد الميول العربية نحو الانهزامية والتطبيع والخيانة وازدياد الوضع العربي سوءاً وبذاءة، برزت التعابير البذيئة في شعر النَّوَّاب التي تعكس بذاءة الوضع العربي ودناءة المواقف الرسمية. وفي هذا يقول في قصيدة «وتريات ليلية»:
تعالوا نتحاكم قدام الصحراء العربية
كي تحكم فينا
أعترف الآن أمام الصحراء
بأني مبتذل وبذيء وحزين
كهزيمتكم يا شرفاء مهزومين
ويا حكاما مهزومين
ويا جمهورا مهزوما
ما أوسخنا!. ما أوسخنا
ما أوسخنا ونكابر!
ما أوسخنا! لا أستثني أحدا!
إلا أننا اليوم نستطيع أن نقول لمظفر النَّوَّاب إن بروز قوى محور المقاومة هو الاستثناء، وأن هذا المحور يحمل الراية العربية التي تتخذ من القدس بوصلة لها. ونستطيع أن نبشر النَّوَّاب الذي يعيش في القصيدة بأن الجماهير العراقية -أبناء بلده- اليوم ملؤوا شوارع بغداد يهتفون ضد الوجود العسكري الأمريكي والأوروبي.
الأساطيل لا ترهبوها!
يبدأ مظفر النَّوَّاب قصيدته بالتأكيد بمفردة عامية يفهمها الجميع «إيه الأساطيل لا ترهبوها». يأتي التأكيد كجواب صادم حاسم لصراع نفسي وحديث باطني لدى الجماهير والنخب مفاده: «هل يمكن الوقوف بوجه الأساطيل الأمريكية؟! وهل تهزم؟!».
يُجيب النَّوَّاب على هذا السؤال بمنطق آخر، منطق أن هذه الأساطيل لا تحتاج إلى أن تعادل السلاح لكي تهزمها، بل تحتاج إلى الموقف الأصيل، الموقف الفطري الاجتماعي التاريخي المناوئ للأجنبي، وخاصة حين يكون الأجنبي معادياً كما هي عليه الإمبريالية الأمريكية. وهذا الموقف هناك من ينقضه بلبوس الحداثة والعولمة والتبريرات الانهزامية والتبشير بالفتوحات الديمقراطية. هذه اللبوسات التي تغطي على الموقف الأصيل هي ما يطالبنا النَّوَّاب بخلعها:
«قفوا لو عراة كما لو خلقتم
وسدوا المنافذ في وجهها
والقرى والسواحل والأرصفة».
بعد إنجاز الموقف المعنوي الإنساني الأصيل حينها يُمكن المطالبة بموقف مادي للمواجهة بعد كسر الحاجز النفسي:
«انسفوا ما استطعتم إليه الوصول
من الأجنبي المجازف واستبشروا العاصفة
مرحبا أيها العاصفة»!
أشعل مياه الخليج
«أيها الشعب احْشُ المنافذ بالنار
أشعل مياه الخليج...»!
هي دعوة للكفاح، وإشعال مياه الخليج. هذه الدعوة قائمة منذ زمن القصيدة حتى اليوم. وفي هذه الدعوة عنصر وجداني:
«تسلح
وعلّمْ صغارك نقل العتاد كما ينطقون
إذا جاشت العاطفة»!
نقل العتاد العسكري يتجاوز كونه عملا عضليا أو مهمة جندية ليصبح عملاً تربوياً يُعلم الأطفال عليه -لمواجهة مستقبل الصراع ـ كما يُعلمون اللفظ إذا جاشت العاطفة، وحين تجيش العاطفة يكون اللفظ أدبياً قريباً للقلب. بهذا المنطق الوجداني الحميمي على العربي أن يُربي أطفاله لحمل السلاح واستخدامه لمواجهة العدو، فهي مسألة عشق، فالحرب دفاعية، دفاعاً عَمن نُحب. وهذا المنطق الوجداني والعاطفي يحطم المنطق السياسي والفلسفي الجامد الذي يولد السياسات الإنهزامية.
أجواء القصيدة الوجدانية المشحونة بالعاطفة القومية تجعل الشاعر يحمل مهمة الشاعر العربي القديم، إلاَّ أن مظفر النَّوَّاب تجاوز فضاء القبيلة التي وقف عندها الشاعر العربي القديم، واتسع إلى فضاء الأمة العربية.
«شفتاي امتداد لجرح بها كلما صاح صحت
فأمي هي النخلة الحالمة
وأمي هي الأنهر الحالمة
وأمي التي علمتني على الصبر
آنئذ علمتني على الطلقة الحاسمة».
بوصلة القدس
«بوصلة لا تشير إلى القدس مشبوهة
حطموها على قحف أصحابها»!
حين يصبح العقل غير أمين تتغلب فيه المصطلحات والمفاهيم والدبلوماسية:
«أهلا بدعاة الموضوعية
جارتنا «إسرائيل» حبيبتنا
ذات الفضل على تطوير ديمقراطيتنا
هي صاحبة الأرض ونحن الغرباء وشذاذ الآفاق»!
(قصيدة الحزن جميل جدا)
في هذه الحالة يدعو النَّوَّاب إلى القلب:
«... اعتمدوا القلب
فالقلب يعرف مهما الرياح الدنيئة سيئة جارفة».
الانفعال العاطفي يُصبح مدخلاً لتناول قضايا سياسية لا جدوى من تناولها عقلاً بعد أن تحول الجدل إلى سفسطة، ولا ينتهي الجدل المتعصب في مناقشتها إلى حل، وعلى سبيل ذلك موقف اليسار صاحب الجمهور العقائدي الشعاراتي الديماغوجي الرافض لكل حركة ثورية غير يسارية ويعتبرها رجعية ما دامت إسلامية، حتى ولو كانت تناضل ضد الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني. وهذا الموقف راهنا يتخذه بعض اليسار العربي تجاه محور المقاومة.
«لم يناصرك هذا اليسار الغبي
كان اليمين أشد ذكاء فأشعل أجهزة الروث
بينما اليسار يقلب في حيرة معجمه
كيف يحتاج دم بهذا الوضوح
إلى معجم طبقي لكي يفهمه؟!
أي تفوه بيسار كهذا!
أينكر حتى دمه؟!».
الدمى الوطنية
مظفر النَّوَّاب الشاعر الذي عانى كثيراً من الديكتاتوريات، تلمس الرابط بين الاستبداد والاستعمار في المجتمع العربي عموماً، وفي مجتمع الجزيرة العربية بشكل خاص، حيث المشيخات الاستبدادية العميلة للاستعمار، وضع النَّوَّاب معادلة أن الإنسان الحر هو القادر على التحرير:
«احرقوا أطقم القمع من خلفكم
فالأساطيل والقمع شيء يكمل شيئا
كما يتنامى الكساد على عملة تالفة
بالدبابيس والصمغ هذي الدمى الوطنية واقفة
قرّبا النار منها
لا تُخدعوا إنها تتغير
لا يتغير منها سوى الأغلفة».
تحضر في قصيدة مظفر النَّوَّاب رموز وتعبيرات لم تختلف دلالتها حين كتب الشاعر القصيدة وبين دلالتها اليوم، بل إن هذه الدلالة ازدادت عمقاً عما كانت عليه سابقاً، فتنبؤات الشاعر والتعميمات التي وضعها آنذاك تجلت اليوم بشكل واضح وفاضح أيضاً.
ومن هذه الرموز والتعبيرات: «أمريكا، الأساطيل، النفط، الدمى الوطنية، شعب الخليج، جهيمان، ناصر السعيد، اليسار الغبي، حاملات الصواريخ، الأطلسي، بوصلة القدس، الأجنبي، العروش...».
وفي العدوان الراهن على اليمن، وفي المساعي لتصفية القضية الفلسطينية، ومعركة محور المقاومة مع الوجود الإمبريالي والصهيوني، تحضر هذه الرموز فاعلة مؤثرة ببعدها المقاوم (جهيمان، ناصر السعيد، من يتخذون بوصلة القدس...)، وبعدها السلبي الخياني المتمثل بمشيخات الخليج والحكام العرب العملاء واليسار الغبي وقوى العدوان الغربي الأمريكي والأوروبي.