شكّل حالة خاصّة في المشهد الإبداعي والثّقافي العربي:الذكرى الثانية والعشرين لرحيل الشاعر الكبير عبدالله البردوني
قيل عنه:
المقالح: هو شاعر كل زمان ومكان، وشاهد عصر ينتقل عبر العصور
طاهر: كان أجرأ الشعراء العرب ضد الطغيان والتسلط
الجيلاني: كان “صوت الشعب” الذي يعبَّر عن آلام وآمال وتطلعات الفقراء والمحرومين
كتّاب عرب: هو البصير في الزمن الأعمى، والموقف في زمن بلا موقف، وفتح للقصيدة التقليدية طاقات المعاصرة والحداثة
تحل علينا الذكرى الثانية والعشرين لرحيل الشاعر الكبير عبدالله البردوني، الذي غيبه الموت في الـ31 أغسطس 1999م.
كان أحد طلائع الشعراء العرب وكان أيضاً باحثاً اجتماعياً وناقداً وكاتباً متعدد الصفات، ومن خلال إبداعاته ومؤلفاته، وبالرغم من فقده البصر في سن مبكرة، إلاّ أنه استطاع أن ينقل الواقعين اليمني والعربي بجوانبهما الحالكة والمضيئة، حيث تخطت شهرته حدود اليمن؛ ليصبح أحد أكبر الشعراء العرب في القرن العشرين، ولا يزال يشكل حالة فريدة من نوعها في اليمن والوطن العربي.
سيرة فريدة
ولد عبد الله صالح البردوني في قرية (بردون) في محافظة ذمار عام 1929م، وأصيب بالجدري وهو في سن الخامسة، ففقد بصره كليا، ثم انتقل إلى مدينة ذمار طلبا للعلم، ومنها إلى مدينة صنعاء، حيث عين مدرساً للأدب في المدرسة العلمية، وتنقل في عدد من الوظائف الحكومية.
والبردوني شاعر وناقد أدبي ومؤرخ ومدرس يمني تناولت مؤلفاته تاريخ الشعر القديم والحديث في اليمن ومواضيع سياسية متعلقة باليمن أبرزها الصراع بين النظام الجمهوري والملكي الذي أطيح به في ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م وغلبت على قصائده الرومانسية القومية، والميل إلى السخرية والرثاء، وكان أسلوب ونمطية شعره تميل إلى الحداثة عكس الشعراء القبليين في اليمن.
أصدر البردوني خلال مسيرته الأدبية ثمان دراسات، و12 ديواناً، هي وفق الصدور: “من أرض بلقيس”، “في طريق الفجر”، “مدينة الغد”، “لعيني أم بلقيس”، “السفر إلى الأيام الخضر”، “وجوه دخانية في مرايا الليل”، “زمان بلا نوعية”، “ترجمة رملية لأعراس الغبار”، “كائنات الشوق الآخر”، “رواغ المصابيح”، “جواب العصور”، “رجعة الحكيم بن زائد”. وقد صدرت هذه الأعمال في مجلدين عن الهيئة العامة للكتاب عام 2002م، ثم أعيدت طباعتها مراراً.
ومن مؤلفاته الفكرية: “رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه”، “قضايا يمنية”، “فنون الأدب الشعبي في اليمن”، “اليمن الجمهوري”، “الثقافة الشعبية تجارب وأقاويل يمنية”، “الثقافة والثورة”، “من أول قصيدة إلى آخر طلقة، دراسة في شعر الزبيري وحياته”، “أشتات”.
وللبردّوني خمسة أعمال غير مطبوعة، هي، “رحلة ابن من شاب قرناها” (ديوان شعر)، و”العشق على مرافئ القمر” (ديوان شعر)، و”العم ميمون” (رواية)، و”الجمهورية اليمنية” (كتاب)، بالإضافة إلى، “الجديد والمتجدّد في النقد الأدبي” (دراسة).
نبوغه وشهرته
إن فقد البردوني لبصره لم يحل دون نبوغه الشعري الذي جعله من أبرز الشعراء والأدباء في العالم العربي منذ سبعينيات القرن الماضي، وسمّي بالرائي المبصر، فأشعاره تحكي الواقع بتجرد، كما لم تخل كلماته من نقد لاذع وسخرية مبكية من حال الطبقة السياسية في ذلك الوقت.
ورغم شهرته التي تخطت الحدود لم يسع البردوني لمخالطة ذوي النفوذ، ولم يكن يوما على وفاق مع أصحاب السلطة في اليمن، وإنما عرف بتواضعه وتبنيه هموم المهمشين والمعدمين.
وقد كانت قصيدته “أبو تمام وعروبة اليوم” بوابة العبور إلى عالم الشهرة، وفي بعض أبياتها يقول الشاعر الراحل:
حبيبُ وافيتُ من صنعاءَ يحملني
نسرٌ وخلف ضلوعي تلهثُ العربُ
ماذا أحدثُ عن صنعاءَ يا أبتي
مليحةٌ عاشقاها السلُّ والجربُ
مناشدات ومطالبات
الأدباء والنقاد اليمنيون يتطلعون إلى استمرار إقامة مهرجان كبير كل عام باسم الشاعر عبدالله البردوني ترعاه الجهات الثقافية في بلادنا، وتدعى إليه الوفود العربية ليكون مهرجاناً عالمياً بحجم الشاعر الكبير عبدالله البردوني، ومنذ وفاته قبل 22 عاماً وهم يطالبون ويناشدون كل من يستطع أن يعمل من أجل تحويل منزله إلى متحف تعرض فيه مقتنياته، ليصبح مزاراً لكل محبيه ومعجبيه من كافة دول العالم.
وحالياً بعد أن تهدم منزله نتيجة الأمطار الغزيرة التي هطلت، يتم إعادة بناء هذا المنزل وإن شاء الله نجده قد تحول إلى متحف في القريب العاجل.
ما قيل عنه
لقد قيل الكثير عن شاعر اليمن عبدالله البردوني، أدباء ونقاد يمنيون وعرب وأجانب وقفوا مشدودي الأبصار أمام تجربته ونبوغه وإبداعاته، فالبردوني لم يكن مجرد “عابر سبيل” في حياتنا ولن يكون، وبالنسبة لليمن فإنه شاعر كل العصور إنه شاعر الألف عام الماضية على الأقل، وبحسب النقاد أن زمناً طويلاً سيمر قبل أن تعرف اليمن شاعراً آخر يمكن أن يرتقي هذه الذرا التي حلق البردوني في أجوائها، وقد كانت ذرا صعبة مستحيلة على المستويين الإبداعي والإنساني.
وسنتطرق إلى ما قيل عنه في مناسبات مختلفة، فالشاعر الكبير عبد العزيز المقالح يؤكد في إحدى الفعاليات التي أقيمت احتفاءً بالشاعر البردوني في ذكرى وفاته أنه استعصى على الغياب بإنجازاته الشعرية، وبما ترك من روائع إبداعية ورؤى مستقبلية، فقد صار شاعر كل زمان ومكان، وشاهد عصر ينتقل عبر العصور.
وقال: “إن الموت بالنسبة للمبدعين هو طريق إلى حياة جديدة، حياة أطول وأحفل بالمحبة، والمتابعات القرائية الجادة والدراسات العميقة، التي تتكفل بها الأجيال اللاحقة، لإظهار المزيد مما انطوت عليه أعمال المبدعين وآثارهم الخالدة”.
وأضاف: لا بدّ للمبدعين في اليمن وفي الأقطار العربية الأخرى أن يتذكروا الشاعر العظيم البردوني بإجلال في ذكرى رحيله، لما له من مكانة لا تُدانى في عالم التجديد والتحديث، داعياً إلى جعل إبداعه الشعري محل دراسات نقدية متنوعة، مؤكدا أن وضع البردوني في صدارة المجددين المعاصرين قضية لا يختلف عليها اثنان، وأن نقاد اليوم والغد سيقفون في ظلال هذه الدوحة الخضيرة طويلا.
أجرأ الشعراء العرب
فيما أشار الأديب عبد الباري طاهر إلى أن الشاعر البردوني لقي العنت والقسوة والتجاهل في حياته، وبعد مماته، ولم يعامل بما يليق بكونه قامة بحجم الوطن العربي، ويعود ذلك إلى أن أشعاره كانت مكرسة ضد الاستبداد والطغيان، وضد الفساد والعبث بالمال العام، وضد الإساءة إلى الشعب اليمني، فهو كان شاعراً وناقداً من أجرأ الشعراء العرب في مواجهة طغيان الحكم في اليمن وفي البلاد العربية.
وشدد على أن البردوني يستحق أن يحوّل منزله في صنعاء إلى متحف، وأن يطلق اسمه على شارع رئيسي في صنعاء، وأن تكون أشعاره وتراثه وفكره وثقافته جزءا من مناهج التربية والتعليم والثقافة الوطنية.
الأقرب إلى الشعب
ودعا الناقد الدكتور أبوبكر البابكري في أحد المهرجانات السنوية التي أقيمت للاحتفاء بهذه الشخصية العالمية، إلى إقامة مهرجانات كبيرة بشكل سنوي تليق بالشاعر البردوني، وألاّ تقتصر هذه المهرجانات على المستوى اليمني فقط بل يجب أن تكون تظاهرة عربية، كما كان البردوني عربي اللسان والبيان، منوهاً بأن البردوني كان من خلال إبداعاته وأعماله أقرب إلى الشعب ومعاناة المظلومين، ولذلك كان من المغضوب عليهم من قبل السلطات والحكام.
صوت الشعب
ويؤكد الشاعر علوان الجيلاني أن الشاعر الكبير عبدالله البردوني كان “صوت الشعب” وأنه دائما ما كان يعبر عن آلام الفقراء والمحرومين، وعن آمال وتطلعات الثائرين والمناضلين والأتقياء والأنقياء.
واعتبر أنه لكل ذلك كان لا بد أن يصطدم بالسلطة، على الرغم من أنه لم يكن يتعمد ذلك مع أي سلطة كانت سواء سياسية رسمية أو دينية أو اجتماعية، حيث كان يشتغل على الثوابت ونقل معاناة الناس ومعاشهم في حاضرهم وماضيهم وفي مستقبلهم.
العبقرية المتوهجة
وقد خص الدكتور عبد الحميد الحسامي البردوني بجزء كبير من رسالته العلمية حول الشعر الحداثي في اليمن، فهو يرى أن فرادة البردوني تأتي من عبقريته الشعرية المتوهجة، التي تعززها رؤية واسعة فضلاً عن تقنيات بنائية ظل يعززها ويجدد فيها عبر مسيرته الإبداعية.
ويذكر الحسامي للبردوني عدداً من السمات الأسلوبية التي ميزته عن غيره، ومنها: اللغة الشعرية التي تمكّن من انتزاعها من البيئة المحلية اليمنية وإدراجها في سياق النص الشعري الفصيح، وتخصيب نصه بالرموز الإنسانية التي تمنح النص ثراءً دلالياً وتوسع أفقه الثقافي، واشتغال نصه الشعري على أسلوب المفارقة، الأمر الذي منحه طاقة جديدة، وفتح أمام المتلقي مفاجآت من شأنها أن تكسر أفق التلقي، واستلهام المعطيات السردية في النص، والشغف بالتجريب الذي لا ينبت عن الأفق الرؤيوي للشاعر.
وأكد أن البردوني علامة فارقة في مسيرة الشعر العربي الحديث، لأنه تمكن من تطويع القصيدة لمقتضيات حركة الحداثة الشعرية من زاويتي الرؤية والبنية، مع الحفاظ على الشكل الخليلي الذي ظل وفيًا له دون سائر شعراء العربية الذين جايلوه.
بصير في زمن أعمى
الكاتب المغربي، المصطفى البركي يرى من جانبه، أنّ البردّوني هو الشّاعر الذي صنع من القصيدة قرص خبز الفقراء، وكراسة ثقافة، وجامعة شاملة، وهو البصير في الزمن الأعمى، والموقف في زمن بلا موقف، مشيراً إلى أنّ البردّوني، شكّل حالة خاصّة في المشهد الإبداعي والثّقافي، في اليمن خاصّة، والعربي إلى حدّ كبير، فقد حمل اليمن، حسب البركي، يمن الفقراء والمغلوبين على أمرهم، معطفاً فوق ظهره، وراح يتنقّل به عبر بوّابات العالم، صارخاً محتجّاً في وجه الظّلم والاضطهاد والاستعمار، بكلّ أشكاله وصوره، ممّا أكسبه شخصيّة كارزميّة قوية الحضور في أوساط الناس ووجدانهم.
ويؤكد أن لا أحد يستطيع، وهو يقرأ للبردوني، فصل حياته عن إبداعه، فكلّ حياته كانت مكرّسة للإبداع والكتابة، إمّا فعلاً يتحقّق شعراً ودراسات مختلفة، وإمّا قراءة ومثاقفات، يبحث من خلالها عن وجوه للتحقّق الإبداعي والفكري، أشكالاً ومضامين ورؤى.
ويقول الناقد السّوري، الدكتور وليد مشوّح، إنّ البردّوني فتح للقصيدة التقليدية طاقات المعاصرة والحداثة، وتمكّن من تطوير الشكل ليخضع للغة الجديدة التي تطوّرت على يديه، مشيراً إلى أنّ النزعة الدرامية كانت أحد أهمّ العناصر التي وظّف بها البردّوني أداته الشعرية لخدمة رؤيته الفنية. ويرى الشاعر اللبناني، عبّاس بيضون، في البردّوني، معجزة الشعر، مثلما كان المعرّي من قبل، وطه حسين من بعد، معجزة النّثر.
جوائز دولية
خلافاً للأوسمة التي تقلّدها، والجوائز المحلّية التي حصدها الشاعر الكبير عبدالله البردّوني، فقد نال عدداً كبيراً من الجوائز العربية والدولية، نذكر منها جائزة “أبي تمّام” بالموصل، العراق، عام 1971م، وفي عام 1981م نال البردّوني جائزة “شوقي” بالعاصمة المصرية القاهرة، ونال في العام التالي جائزة الأمم المتحدة “اليونسكو” والتي أصدرت عملة فضيّة عليها صورته كمعوّق تجاوز العجز، وحصد جائزة مهرجان “جرش” الرابع بالأردن عام 1984م، ثمّ جائزة “سلطان العويس” بالإمارات العربية المتّحدة عام 1993م.
دراسات عن البردّوني
وهناك الكثير من الدراسات التي قدمها عدد من الباحثين حول تجربة البردوني الشعرية ومنها:
1- “البردوني شاعراً وكاتباً” لطه أحمد إسماعيل (رسالة دكتوراه، القاهرة).
2- “الصورة في شعر عبدالله البردّوني”، د. وليد مشوح (سوريا).
3- “شعر البردّوني”، محمد أحمد القضاة (رسالة دكتوراه، الأردن).
4- “قصائد من شعر البردّوني”، ناجح جميل العراقي.
البردّوني بلغات عالمية
ترجم عدد من أعمال البردّوني إلى لغات عالميّة، منها:
– عشرون قصيدة مترجمة إلى الإنجليزية في جامعة “ديانا” في أمريكا.
– “الثقافة الشعبية” مترجمة إلى الإنجليزية.
– ديوان “مدينة الغد” مترجم إلى الفرنسية.
– “اليمن الجمهوري” مترجم إلى الفرنسية.
– كتاب بعنوان “الخاص والمشترك في ثقافة الجزيرة والخليج”، مجموعة محاضرات بالعربية لطلاب الجزيرة والخليج، ترجم إلى الفرنسية.
مكتبة البردوني بذمار
وفي العام الذي توفى فيه الشاعر البردوني فقد تم إنشاء مكتبة عامة في مدينة ذمار تحمل اسمه، وذلك في العام 1999م، وتعتبر المكتبة من أهم المكتبات على مستوى اليمن، حيث بدأت بـ800 عنوان وصولا إلى أكثر من 33 ألف عنوان حاليا.
وتعد المكتبة حالياً من أهم المراكز التنويرية في مدينة ذمار حيث تقوم بتنظيم الفعاليات والأنشطة الثقافية والندوات الفكرية في مجالات شتى وترعى المبدعين الشباب وتقديمهم للوسط الثقافي.
* نقلا عن : الثورة نت