يجد المتتبع لخارطة الأحداث في اليمن خلال العشرية الماضية أن شهرَ فبراير يؤرِّخُ لمحطات مهمة من الاشتباك الشعبي مع الوَصاية الأجنبية من جهة ومن أُخرى لإنجاز وطني كبير، تتناول هذه المادة كلا الأمرَين بالانطلاق من الحادي عشر من فبراير 2011 كيوم رمزي لاندلاع الانتفاضة الشعبيّة على حكم الثلاثة والثلاثين عاماً، وفي الذكرى الثالثة للانتفاضة تستوقفها مؤامرة التقسيم وهي تبتلع اليمن تحت عنوان التغيير ويتوجّـها فبراير 2015 برواية الخروج الأمريكي المُذل من اليمن.
منذ مطلع فبراير 2011 بدأت التجمُّعاتُ الطلابية من جامعة صنعاء ــ بشكل متقطع ــ تخرُجُ للمطالَبة بالتغيير والإصلاح ولم تكد هذه التجمعات تغادرُ بوابةَ الجامعة حتى تفرقها هراوات السلطة تحت ذعر المتغيرات الدراماتيكية في تونس ولم تلبث مخاوف السلطة أن تصاعدت مع الإطاحة بحسني مبارك من كرسي الرئاسة في مصر، وقد شهدت اليمن إثر ذلك أول خروج شعبي بارك نجاح ثورة يناير في مصر ورفع مطلب رحيل السلطة الحاكمة، ثم انتظمت المظاهرات والمسيرات في غير محافظة يمنية وبدأت الاعتصامات وتعددت وتواصلت، لكن التغيير المنشود وجد نفسه أمام خصوم وأعداء كُثْرٍ، “الحقيقة أن كلتا كفّتي المعادلة التقليدية قد ارتجفت تحت ثقل مقاديرَ مُتكافئة من الذعر إزاء الانتفاضة لحظة اندلاعها، وكما تسلح الحاكم في وجهها بوسائط القمع المباشر المختلفة، فقد ضَفَرَت المعارضة من أربطة عنق قياداتها مشانقَ ناعمةً لها وطعنتها بذريعةِ الحماية في الظهر” ( )، وتولى مركز الوَصاية الإقليمية الدولية استكمالَ طَوق الحصار حول الانتفاضة اليمنية، وقد نجح بالفعل في ذلك؛ بفعل أمور شتى أحدها امتداداته في ساحات وميادين الانتفاضة، الخطة الأمريكية في مواجهة فرصة اليمن للانبعاث من جديد، قضت بتنازل صالح عن موقعه لشخص يجري التوافق عليه مع اللقاء المشترك وتشكيل حكومة مناصفة، كان ذلك في الشهر الثالث من الانتفاضة ( ) وفي الشهور التالية ستغدو الإملاءاتُ الأمريكية هي محور ما سُمِّيَ بـ المبادرة الخليجية مع إضافات غاية في الخطورة أحكمت تماماً طوق احتواء الانتفاضة وثبتت الوَصاية الأمريكية على اليمن ( )، وتصدّر مرحلةَ ما بعد تشكيل حكومة المبادرة الخليجية، تردي مستوى الخدمات وتفاقم المعاناة المجتمعية وارتفاع مستويات الفساد في ظل المحاصصة من جهة، ومن أُخرى وسط تثبيت الحماية الأمريكية بحسب وثيقة رسمية صادرة عن وزارة الخارجية في ديسمبر2011 ( )، جاء في الوثيقة على لسانِ السفير الأمريكي بوصفه المندوب السامي “الفساد لا يمثل المشكلة الأكثر أهميّة التي يواجها اليمن ويجب ألا تنشغل الحكومة بذلك” ثم يستطرد السفير فيحدّد أولويات ما سميت بحكومة الوفاق في قضايا هامشية وشكلية” ( )، في مقابل ذلك سيتصاعد الحضور الأمريكي العسكري والاستخباراتي في اليمن وصرحت وزارة الحرب الأمريكية أن 200 سيارة مدرعة تابعة للجيش الأمريكي وصلت اليمن عبر ميناء الحديدة مع فرق من مُشاة البحرية المارينز ( )، أي أن مجمع السفارة الأمريكية أَو ما يفترض أن يكون كذلك تحول إلى قاعدة عسكرية رديفة لقاعدة العند الجوية وللمراكز الاستخباراتية الأمريكية وغرف العمليات في عدن والمكلا وفي ظل انتشار فرق أُخرى في قاعدة الديلمي الجوية ومعسكر القوات الخَاصَّة بـ الصباحة ( )، ومن مظاهر الوَصاية الأمريكية في هذه المرحلة في المجال العسكري تصعيدُ الأنشطة الاستخباراتية للدرونز وَإذَا كانت فترات التحليق لهذه الأنشطة المعادية قبيل انتفاضة فبراير تتراوح بين الأسبوع أَو عشرة أَيَّـام أَو شهر، ستمتد فترة تحليق طائرات التجسس من شهر إلى شهرين ثم إلى أربعة أشهر فنصف عام وُصُـولاً إلى “فرض ذلك بشكل كلي وتحتَ عنوان المصادقة على اتّفاقية الأجواء المفتوحة”. ( )
رحلاتُ الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع في سماء اليمن رافقتها أَيْـضاً رحلاتُ عبور دائمة لطيران العسكري الأمريكي في المجال الجوي اليمني، وقد سهّل ذلك أنشطة السيطرة الأمريكية على مستوى المنطقة وليس اليمن وحسب.
يفصحُ الانتشارُ الأمريكي في اليمن طبيعةَ الاستهداف، شموليته وديمومته، بمعنى أن أبعاد الجغرافيا الثلاثة رهنَ الاقتناصِ الأمريكي قبل وبعد انتفاضة فبراير 2011، وفي هذا السياق باشر الأمريكان تحريك ورقة القاعدة والعناصر التكفيرية وتوسيع انتشارها في غير محافظة وُصُـولاً إلى أمانة العاصمة، لكن القوة الثورية الصاعدة كانت لهذا المخطّط بالمرصاد وأسقطته في ثلاث محافظات هي صعدة وحجّـة وعمران، وبعمليـات نوعية أعلنت فشل الوَصاية وأدواتها عن تفجير حرب مذهبيـة في اليمـن “رغم التغذية المُستمرّة لذلك، وإذكاء الصراع من قبل بعض القوى الإقليمية” ( )، في غضون ذلك جرى الإعلانُ عن فرض تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم بصيغة مرسومٍ رئاسي في العاشر من فبراير 2014 ( ) أي على بعد ساعات من الذكرى الثالثة لانتفاضة 11 فبراير، في المقابل تصلبت القوى الوطنية في موقفها وذهبت إلى أن الحل الأمثل هو تجديد الانتفاضة الشعبيّة ( )، وبفارق شهور فرضت الوَصاية رفع الدعم عن المشتقات النفطية على رأس جدول أعمال الحكومة المنبوذة شعبيًّا والمتفق على تغييرها بمؤتمر الحوار الوطني، توجت الاستجابة لإملاء الإصلاحات السعرية سلسلة طويلة من الإذلال للشعب والنيل من الكرامة والسيادة الوطنية، وقد بلغ أثر ذلك في الوسط الشعبي ذروته “وكان لدى مكون أنصار الله الأهليةُ وذاتُ القدر من الأسباب والحوافز التي تدعوه لريادة مشهد شعبي بات آيلا تماماً للذهاب إلى انتفاضة أُخرى قرابة أربعة أعوام من تداعيات انتفاضة فبراير 2011 المخيبة للآمال”. ( )
التصعيد الثوري والوَصاية الأمريكية وجهاً لوجه
في أعقابِ انتفاضةِ فبراير 2011 تقدم منطقُ التسوية على تطلعات الجماهير، لكنه لم يُلْغِ الإرادَةَ الشعبيّة ولم يسد الأُفُقَ أمام المكونات الثورية الشعبيّة المقصية من المشهد السياسي التقليدي قبل وبعد 11 فبراير 2011، وعلى الرغم أن أبرز هذه القوى قد وجدت نفسَها تحت وابل النيران السياسية والأمنية، إلا أنها شقت طريقها ومضت قدماً في نزع الألغام المزروعة أمام الشعب اليمني، ولم تفلح سلطةُ المبادرة ومن ورائها مراكزُ الوَصاية في محاصرة تصعيد الحالة الشعبيّة الثائرة، وسيصل الاشتباكُ بين الطرفين ذروتَه في الحادي والعشرين من سبتمبر 2014 وحقّق الأهداف الشعبيّة وصاغ وبقلم يمني اتّفاقًا ناظمًا لمرحلة ما بعد الثورة، هو اتّفاق السلم والشراكة الوطنية، وقد برز زَخَمُ الإنجاز الوطني مع تسجيل مطار صنعاءَ الدولي أولى رحلتين للخروج الأمريكي المُذل من اليمن في الثامن والعاشر من أُكتوبر ــ أي بفارق عشرين يوماً من انتصار ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر ــ وبقوام مِئتين وأربعةَ عشرَ عُنصرًا من المارينز وجواسيس الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية، وتحت وَقْعِ الحدث الزلزال ـ الإعلان الدستوري ــ وملء فراغات الاستقالة المزدوجة وإحراق ورقة التعطيل والفراغ وما أعقبه من تحرير محافظة البيضاء من القاعدة، سُجل تصفيرُ الحضور الأمريكي من العاصمة صنعاء بعيد رحيل مِئة وتسعة وأربعين عُنصرًا، مِئةٌ منهم من المارينز وجواسيس الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية ( ) في الحادي عشر من فبراير 2015.
ولم يكن بوِسْعِ واشنطن التكتُّمُ على الإذلال الذي تعرضت له في اليمن، فتوالت البياناتُ بهذا الشأن من غيرِ جهةٍ وتناقلت وسائلُ الإعلام الدوليةُ والأمريكية أولاً روايةَ الخروج المُذل وتدمير الأسلحة تحت وطأة السيادة التي باغتتهم في مطار صنعاء الدولي بعد عقودٍ من الوَصاية “قالت وزارة الحرب الأمريكية: إن مشاة البحرية الأمريكية سلّموا ما تبقى من أسلحتهم لليمنيين في مطار صنعاء” ( )، وَأَضَـافَ البنتاغون “إن مشاة البحرية دمّـرت أسلحةً ثقيلةً في ترسانة سفارتهم قبل مغادرتهم إلى المطار” ( )، الخارجية الأمريكية من جهتها اعترفت أن “وثائق سرية وتجهيزات حساسة تم إتلافها التزاماً بالتدابير الوقائية المعمول بها”. ( )
وفي مسعًى لتخفيفِ وَقْعِ رواية إذلال القوات الأمريكية ومحاصَرة صداها، حرص المسؤولون الأمريكيون على الإشارة إلى استمرار الحضور في قاعدة العنـــد الجويـة “لا يزال بعضُ العسكريين يجرون عملياتِ تدريب مع القوات العسكرية اليمنية ويحتفظون بالقدرة على القيام بعمليات مكافحة الإرهاب إذَا لزم الأمر” ( ) لكن ذلك لم يُجْدِ فخرج سلاحُ مُشاة البحرية الأمريكية ببيانٍ جاء فيه “غادرت قواتُ الأمن البحري السفارة الأمريكية في اليمن لتتجه إلى المطار في إطار أمر المغادرة بأسلحة شخصية فقط، لم يتم تسليم أي منها بأي شكل من الأشكال وتم تدمير الأسلحة في السفارة والمطار وفق خطة التدمير المعتمدة”. ( )
هذا الرحيلُ المُذل مثّل ضربةً قاسيةً للقوات الأمريكية في المنطقة عُمُـومًا، وفيما كانت تصريحات أمريكية تتحدث عن استكشاف خيارات العودة، اعترف مسؤولو المخابرات الأمريكية أن إغلاقَ السفارة سيعقّدُ عملياتهم في اليمن “قال مسؤول أمريكي كبير إن وزارة الخارجية شكلت فريق عمل للإشراف على مغادَرة عشرات الأمريكيين من مٌجمع السفارة، الذي كان بمثابة قاعدة لوكالة المخابرات المركزية وغيرها من وكالات التجسس الأمريكية”. ( )
وكانت الكثيرُ من التقارير بخصوص الرحيل الأمريكي من اليمن قد تضمنت اعترافاتٍ صريحةً من المسؤولين في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما أن ما انتهت إليه قواتُهم من إذلال في اليمن يمثل نكسةً كبيرة للولايات المتحدة الأمريكية وأن القوات الأمريكية كانت معطَّلة منذ انتصار الثورة في 21 سبتمبر 2014م، وامتنع مسؤولو البنتاغون عن الإفصاح عن عدد القوات الأمريكية المتبقية بقاعدة العند الجوية، لكن هذا التحفُّظَ سيتبدد مع طلائع إنجازات الاشتباك اليمني الوطني مع عناصر القاعدة التي سبق لها إسقاط محافظة لحج برعاية أمريكية “أكّـد مسؤولون عسكريون أن الولايات المتحدة الأمريكية سحبت ما تبقى من أفرادها العسكريين في قاعدة العند في جنوب اليمن”. ( )، وفيما اقتصر العدد المذكورُ في الاعترافات الأمريكية على مِئة عنصرٍ، ثمة معلوماتٌ مؤكّـدةٌ تثبت أن عدد العناصر الفارين من قاعدة العند الجوية يفوق مِئتي عنصر، كان ذلك في الثاني والعشرين من مارس 2015، وستصف الصحافةُ الدولية الفرارَ الأمريكي الثالث مخطوفَ الأنفاس من لحج بـ الانتكاسة الخطيرة للنفوذ الأمريكي في اليمن، وبفارِقِ ثلاثة أَيَّـام ولفرط العجز عن تنظيم رحيل قواتها من اليمن خرجت وزارة الخارجية الأمريكية ببيان عبّر عن “القلق من حسمٍ سريعٍ لمعركة عدنَ ( )، وقد كشفت إفادةٌ سابقةٌ لقائد المنطقة العسكرية الخامسة خلفيةَ القَلَقِ الأمريكي “بعد فرار العناصر الأمريكية من صنعاء ومن العند، فروا أَيْـضاً من وكر كبير بعدن، كانوا يديرون منه الكثير من الأنشطة المعادية، ومنها التجسُّس على كُـلّ أجهزة الاتصالات وعندما دخلنا عدن، أحرقوا بعض الأجهزة والوثائق الخَاصَّة، وإن كانوا لم يتمكّنوا تحت ضغط التقدم الكبير للمجاهدين أن يتلفوا كُـلّ الأجهزة فتركوا البعض وهربوا إلى جيبوتي”. ( )
بورك هذا الشعب الذي ما انفك يصحِّحُ قوائمَ المسير اليمني وأولوياته عن رؤية ثاقبة وفي ركاب قائد حكيم.