كالعادة، وقبل الانتخابات الأخيرة وما سبقها من أسابيع وأشهر، هدد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أميركا والحلف الأطلسي ودول الاتحاد الأوروبي، وقال أكثر من مرة إنه لن يوافق على انضمام السويد إلى الحلف.
لم يفاجَأ أحد بتراجعه عن كل ما قاله، خاصة بعد اتصاله الهاتفي بالرئيس بايدن الذي قال بعد يوم من هذا الاتصال "إننا نؤيد انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ولكنّ هذا شأن أوروبي بحت".
وهذا ما قاله له رئيس وزراء السويد آولف كريسترسون بعد أن وافق إردوغان على انضمام بلاده إلى الحلف، واعداً إيّاه بإلغاء الحظر على المبيعات العسكرية السويدية إلى تركيا مع وعود أخرى غير ملزمة بالتنسيق مع أنقرة في محاربة "الإرهاب"، والمقصود به حزب العمال الكردستاني التركي ووحدات حماية الشعب الكردية السورية وأتباع الداعية فتح الله غولن المتهم بمحاولة الانقلاب الفاشل في تموز/يوليو2015. ومن دون أن يتطرق إردوغان إلى الموقف السويدي الرسمي تجاه حوادث حرق نسخ من المصحف الشريف، ما دام ذلك يأتي في إطار "حرية التعبير عن الرأي"!
إردوغان، وقبل يوم من القمة الأطلسية، أجرى اتصالاً هاتفياً مع بايدن وقال "افتحوا أبواب الاتحاد الأوروبي لنا نفتح أبواب الحلف للسويد"، أراد بذلك أن يبرر للشعب التركي تراجعه عن كل ما قاله سابقاً في موضوع الحلف وضد أميركا.
في الوقت الذي تستبعد فيه الأوساط الدبلوماسية أن يحظى إردوغان بأي تأييد من الاتحاد الأوروبي الذي ما زالت تركيا تنتظر على أبوابه منذ سبعين عاماً.
الجانب الأهم في موقف إردوغان هو استفزازه لروسيا قبل يومين من القمة الأطلسية. فقد وجّه الرئيس إردوغان دعوة عاجلة ومفاجئة إلى الرئيس الأوكراني زيلينسكي لزيارته في إسطنبول ليعود منها برفقة 5 من أهم قيادات مجموعة "آزوف" الفاشية، والذين سلّمتهم موسكو لأنقرة في إطار صفقة تبادل الأسرى، ولكن شريطة أن يبقوا في تركيا حتى نهاية الحرب.
وجاء الاستفزاز التركي الثاني بالاتفاقية التي تم التوقيع عليها بين الطرفين، وتتضمن بناء مجمع عسكري لتصنيع المسيّرات التركية في أوكرانيا وتطويرها، بالإضافة إلى مجالات أخرى من التعاون العسكري.
أما الاستفزاز الثالث فقد جاء بلقاء وزير الخارجية هاكان فيدان قيادات الأقلية المسلمة ذات الأصل التركي في منطقة القرم التي تعدّها أنقرة محتلة من قبل الروس.. وجاء إعلان إردوغان عن تأييده انضمام أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي بمنزلة المؤشر الأهم على التغيير المحتمل في سياسات أنقرة تجاه موسكو.
الرئيس بوتين الذي سبق له أن شكا من مواقف تركية مماثلة، ومنها عدم التزام زيلينسكي باتفاقية إسطنبول الخاصة بانسحاب القوات الروسية من كييف مقابل اتفاق روسي-تركي شامل، وبضمانات تركية تتوقع له الأوساط الدبلوماسية أن يلغي زيارته المقررة إلى أنقرة الشهر القادم.
في الوقت الذي تتوقع فيه المصادر الدبلوماسية للطرفين الروسي والتركي أن يستعدا لمرحلة جديدة من الفتور، وربما التوتر الذي ستستفزه واشنطن من خلال الاستعجال في بيع تركيا طائرات أف -16 ورفع الحظر عن مبيعات الأسلحة الأميركية لتركيا وإعادتها إلى برنامج تصنيع طائرات أف – 35، وأخيراً تشجيع المؤسسات المالية الأميركية والعالمية على مساعدة إردوغان في مساعيه لتجاوز الأزمة المالية الخطرة عبر التنسيق مع وزير المالية الجديد محمد شيمشاك (بريطاني الجنسية) ومحافظ المصرف المركزي الجديدة غايا آركان (جاءت من أميركا).
ومع الرهان على الموقف الروسي المحتمل للرد على التغيير غير المفاجئ في موقف الرئيس إردوغان وهو ما عودنا عليه في علاقاته مع الزعماء الآخرين، فقد بات واضحاً أن أنقرة في المرحلة القادمة ستكون إلى جانب واشنطن أكثر مما هي عليه الآن مع موسكو، ليس فقط حيال القضية الأوكرانية، بل كل القضايا الإقليمية والدولية، وهو ما يتطلب من إردوغان المزيد من التنسيق والتعاون مع حلفاء أميركا في المنطقة وخارجها بمن فيهم اتباعها في سوريا.
ومن دون أن يكون واضحاً هل وكيف سيوازن إردوغان بين سياساته الجديدة المحتملة مع واشنطن والغرب وبين علاقاته الشخصية مع الرئيس بوتين وعلاقات أنقرة المتشابكة مع موسكو في جميع المجالات.
فتركيا تستورد نحو 45% من استهلاكها للغاز الطبيعي من روسيا التي تبني 4 مفاعلات نووية في تركيا، ويزورها سنوياً أكثر من 5 ملايين سائح روسي في الوقت الذي تنفذ فيه الشركات التركية ما قيمته عشرات المليارات من الدولارات من المشاريع في روسيا التي تستورد كميات كبيرة من المنتجات الزراعية التركية.
وبعد أن اشترت أنقرة من روسيا قبل 4 سنوات صواريخ أس -400 التي لم يتم تفعيلها بسبب تهديدات واشنطن والحلف الأطلسي الذي أنشأ في تركيا أكثر من 30 قاعدة عسكرية له منذ أن انضمت أنقرة إلى الحلف عام 1952، وبعد أن أثبتت ولاءها لواشنطن بإرسال جيشها إلى كوريا للقتال إلى جانب الجيش الأميركي. فتحوّلت أنقرة بعدها إلى "سمكة في الصنارة الأميركية " فجعلت منها واشنطن خندقاً أمامياً للدفاع عن المصالح الغربية ضد "الخطر السوفياتي الشيوعي" والمد القومي العربي عبر حلف بغداد والتحالف مع الكيان الصهيوني منذ الاعتراف به في نيسان/أبريل 1949.
إردوغان الذي سبق له أن هدد وتوعد حكام الإمارات والسعودية ومصر والكيان الصهيوني وقال عنهم ما لا يقال عاد وتوسل إليهم كي يصالحوه.
نجح في الوقت نفسه في إقناع أتباعه وأنصاره بأن كل ما يفعله ومهما كان متناقضاً إنما "هو لمصلحة الأمة والدولة التركية". وهو ما نجح فيه أمس عندما أقنع هؤلاء أن الاتحاد الأوروبي سيفتح أبوابه في وجه الأتراك وصدّقوا ذلك كما هم صدّقوا ويصدقون كل ما يقوله لهم مهما كان متناقضاً ومبالغاً فيه.
ومن دون أن يخطر على بال هؤلاء أن قبول تركيا في الاتحاد من المستحيلات المئة؛ بسبب عدم التزام أنقرة بمعايير كوبنهاغن الخاصة بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير عن الرأي وحرية الصحافة واستقلال القضاء والتخلف الاجتماعي والثقافي، وأخيراً مقولات إردوغان الدينية والقومية العنصرية ذات الطابع التاريخي والتي يستفز بها أوروبا.
وهو الاستفزاز الذي جعل منه إردوغان نهجاً سياسياً تقليدياً نجح من خلاله في إقناع أتباعه وأنصاره ليصوّتوا له ما دام أنه "الزعيم الإسلامي العثماني التركي العظيم الذي يتحدى العالم برمته" ومن دون أن يبالي هؤلاء (حالة اجتماعية نفسية مثيرة) بتراجع إردوغان عن كل هذه المقولات وتجاهله لها، وهو ما فعله في قمة الأطلسي وقريباً في قمم أو لقاءات إقليمية أخرى حيث سيزور الأسبوع القادم الإمارات والسعودية وقطر، وقبل أن يستقبل الرئيس السيسي في قصره العثماني.
الرهان الأهم بعد الآن على علاقات أنقرة بل ومشاعرها العاطفية تجاه موسكو، وفق المثل الشعبي "وما الحب إلا للحبيب الأول" أي واشنطن التي هددها وتوعدها إردوغان في أكثر من مناسبة لكنه تجاهل كل مواقفها ضده، إذ سبق لبايدن أن قال عنه نهاية 2019 إنه "استبدادي وديكتاتوري ويجب التخلص منه" وفي تشرين الأول/أكتوبر2014 إنه ومعه السعودية والإمارات "يدعم الإرهابيين في سوريا".
كذلك تجاهل تهديدات الرئيس ترامب له عبر "تويتر" إذا لم يخلِ سبيل الراهب برونسون (أخرجه إردوغان من السجن فوراً) ثم بعث له رسالة خطية وقال له فيها "لا تكن غبياً واجلس واتفق مع كرد سوريا" أي الاتحاد الديمقراطي الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية شرق الفرات وهذا حديث الساعة في تركيا!
* نقلا عن :الميادين نت