مع غربتي وتنقلي بين البلدان اكتسبت مهارات وخبرات كثيرة. ودائما ما كان بلدي اليمن حاضراً في ذهني كل دقيقة تقريباً؛ إما مقارنةً وإما رغبة في استنساخ تجربة إيجابية.
وقد اكتشفت بعد كل هذا الاطلاع أن داءً عظيماً يسكن جسد بلدي اليمن، وهو داء «الهيلمة»، أي حب الظهور والمشي بين المرافقين والإحساس بالتميز عن الآخرين، حتى سرى ذلك بين الجميع ومن ضمنهم كثير من المنتمين للمسيرة.
دعوني أسرد لكم قصة حقيقية حصلت في عام 2011 عندما كنت في السويد:
جاء طلبة سعوديون ذلك العام ليدرسوا في مدينتي الصغيرة، فاستقبلتهم حينها وقمت لهم بالواجب كما يقوم به أي عربي تجاه أخيه العربي في الغربة. وذات يوم كنت واقفاً مع أحدهم في محطة القطار نتحدث وندردش، ثم بادرني بسؤال: أستاذ أحمد، من أكبر راس في المدينة هذي؟! من الناس التوب؟!
طبعاً كان السؤال مصحوباً بإيماءات يد من التي تعرفونها.
لا أخفي عليكم أني في لحظتها صُعقت من السؤال، وفي ثانيتين تزاحمت في رأسي عشرين فكرة تريد أن تخرج في الوقت نفسه، مثلا:
- ياااااه! متى آخر مرة سمعت الكلمة هذي «راس كبيرة»؟!
- ما أسرع ما غيرتني هذه البلاد! وما حجم هذا التغيير؟!
- هذا هو البون الشاسع بين العقلية العربية المنمطة على غياب العدالة، وبين عقلية هذا البلد الذي تسود فيه العدالة كل مفصل من مفاصل الحياة.
ثم أجبته مبتسماً: يا صديقي، لا يوجد راس كبيرة هنا، أو تستطيع تقول إن كل الروس هنا كبيرة.
قال: يعني ما في حد هنا البنات يدورون عليه والناس تتمنى تعمل علاقات معه؟!
قلت له: لا، ولا يوجد أحد في أي مدينة في السويد أو ألمانيا أو هولندا بهذه المواصفات.
قال: كيف يعني؟
فقلت له: يا عزيزي أسلوب النفاق والتلصق بالواصلين الساري في دولنا العربية سببه النفاق المتولد نتيجة غياب العدل المجتمعي. فضياع الحقوق يوجب على الإنسان أن يبحث عن بدائل، مثل الواسطة ومصادقة النافذين والواصلين عله يحتاجهم لاحقاً ليحصل على حقه... إلخ.
هنا يا عزيزي الدولة هي أمك وأبوك، وما يسري عليك يسري على أكبر رأس، والقانون فوق الجميع بلا استثناء. ولا يوجد فقير ولا محتاج، لأن الشخص هنا إن كان موظفاً فراتبه مجزٍ ويستطيع أن يعيش به بشكلٍ يغنيه عن أي أحد. وإذا كان عاطلاً ليس لديه مال فيذهب إلى مكتب الرعاية الاجتماعية وخلال دقائق سيعرفون كم دخله وهل هو موظف أم لا ويعرفون كل شيئ عنه، لأن كل شيء مؤتمت، ولن يخرج إلا باعتماد إيجار سكنه ومعونة تكفيه فلا يحتاج أحداً، لا راس كبير ولا صغير، ويعين له مسؤول يتابع حالته ويساعده في الحصول على عمل أو تأهيله إذا كان يحتاج تأهيلاً. فهل بعد هذا يحتاج للتمسح براس كبير؟!
ظل الطالب السعودي صامتاً، ثم قال: يا أخي، حنا ما عندنا كذا. قلت له: ولا دولة عربية عندها كذا، لأن المسألة ثقافة، خدمة الشعب ثقافة، البساطة ثقافة، المنصب تكليف وليس تشريفاً، لا أحد يمشي بحراسة أبداً، لا كبير ولا صغير.
فما كان من صديقي السعودي إلا أن قال: يا أخي، بس كذا ملل!!
ما رأيكم هل كذا ملل؟!
كيف نستفيد من تجارب الآخرين للقضاء على مرض الهيلمة في الدول العربية؟!
* نقلا عن : لا ميديا