كان على جمهورية 26 سبتمبر 1962 أن تُراكِمَ استمراراً على المسار الوطني الاستقلالي الأصيل الذي انتهجته بدءاً الدولة اليمنية المتوكلية المولودة من رحم كفاح وطني مسلّح ضد الاحتلال العثماني، والمعادية بشدَّة لقوى الغرب الاستعماري وعلى رأسها بريطانيا المحتلة حينَها لجنوب اليمن.. لكن الجمهوريةَ التي قامت على أنقاض دولة الاستقلال الوطني من نير احتلال أجنبي وضعت اليمنَ تحت نير الوصاية السعودية الأمريكية لخمسة عقود لاحقة.
معضلةُ جمهورية 26 سبتمبر أنها كانت استنساخاً ارتجالياً لسياقِ مجريات جمهورية يوليو المصرية الناصرية حتى في رافعتها العسكرية (تنظيم الضباط الأحرار) وأهدافها الستة وبيان قيامها، وتولت دوائرُ الإعلام المصري تسويقها باعتساف فاضح للواقع والتأريخ والسياق التأريخي التراكمي اليمني عبر تصوير اليمن ذي العشرة آلاف سنة حضارة وكأنه حصيلة لحظية لقذيفة مدفعية دكّت (دار البشائر).. يمن مقطوع الصلة بأنساق وجوده الحضاري المديد وموصول بحناجر وأخيلة مذيعي (صوت العرب) و المطربة (فادية كمال) وصبيانية وتنطيط مؤلف ومخرج وممثلي فيلم (ثورة اليمن) ذي اللهجة المصرية الصرفة والسطحي حَدَّ التهريج.
إننا ممتنون لعاطفة الزعيم جمال عبدالناصر المشبوبة ولا ريب، غير أنها لم تَعْدُ كونها عاطفةً أسلمت زمامَ اليمن للسادات (الخائن) وعامر (المتفلت العصابي) وعبدالرحمن البيضاني المرادي (الطائفي العُنصري الذي لا يعرف له اليمنيون نسباً يمنياً واضحاً سوى كونه زوجَ شقيقة جيهان السادات ويرطن بالمصرية ويدعو لتقسيم اليمن إلى دولتين شافعية وزيدية).
لقد وصلت صرعةُ التمصير الجمهوري حَـدَّ أن قصة (ابن النيل) كانت تُدرَّسُ للطلبة في اليمن إلى منتصف العقد الثمانيني من القرن الفائت، وفيما كان عبدالناصر يستهدفُ تكريسَ المد القومي الناصري في اليمن حدث العكس فتجذر المد الإخواني على أيدي مدرسي البعثات المصرية التعليمية الى اليمن المتنمين في الغالب لجماعة الإخوان والذين مثّلوا امتداداً لخط الفضيل الورتلاني (الجزائري) وجمال جميل (العراقي) الموصول بكواليس مخابرات الاحتلال البريطاني في عدن وحلف بغداد.
لم تكنْ جمهوريةُ 62 نتاجاً لرؤية واعية ومدركة للسياقات الموضوعية والذاتية في التأريخ اليمني والأصيل والدخيل فيه والقيِّم والغث والجوهري والمرحلي كمعطيات ديناميكية محركة ودافعة لسيرورته صوبَ آمال وطموحات شعبه حتى تعريفها للعروبة كان تقميشاً لمفاهيم واصطلاحات القومية الناصرية المصرية رغم أن عبدَالناصر ذاته كان يدرِكُ أن أيَّةَ دعوى قومية عربية في أي قُطر لا يمكنُ لها أن تستقيمَ بغير تأصيلها على لهب الأصلاب اليمنية كأصلٍ ومنبعٍ وقد صرّح هو ذاتُه خلال زيارته إلى اليمن بأنه (يمنيٌّ من قبيلة مُرّة).