إن الحديث عن الصهيونية متشعب؛ لأنه يمثل امتداد دسائس، والدسائس تاريخ من المؤامرات ملائته الصهيونية أزمانًا وأحقابًا من الظلمة، وحوّلته على حقيقة قائمة كظلمة ليل دامس، ومن الأرجح توضيح مفهوم الصهيونية بأنها: “مجموعة من المعتقدات التي تهدف إلى تحقيق برنامج بازل الذي وضع عام 1897 بشكل عملي، وعلى ذلك فالصهيونيين هم أولئك الذين يعتبرون الطائفة المعروفة باسم اليهود شعباً قومياً مستقلاً ينبغي إعادة توطينه ككيان سياسي مستقل في فلسطين لكي يقيم هناك دولة قومية خاصة باليهود وحدهم.
ومن المهم التذكير بأن أثارة قضية الطبيعة الحقيقية للصهيونية قد أثارت الاهتمام العالمي من جديد عندما صدر في العاشر من نوفمبر عام 1975م قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379 (الدورة 30) الذي ينص على أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”، ويعتبر تبني هذا القرار المرة الأولى التي ترفض فيها غالبية أعضاء الأسرة الدولية بشكل صريح العرض التقليدي للحركة الصهيونية على أنها “حركة التحرير الوطني للشعب اليهودي.
البروتستانتية:
البروتستانتية هي إحدى الطوائف المسيحية ونشأت على يد القس الألماني «مارتن لوثر» في القرن السادس عشر، أما اصطلاح البروتستانتية فيعني لغويًا الاحتجاج والاعتراض. وعن العلاقة بين الكنيسة البروتستانتية وما يسمى بـ“الصهيونية المسيحية” فمن الثابت أن هذه التسمية تطلق في العادة على معتقد جماعة من المسيحيين المنحدرين غالباً من الكنائس البروتستانتية الأصولية والتي تؤمن بأن قيام “دولة إسرائيل” عام 1948 كان ضرورة حتمية لأنها تتمم نبوءات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد وتشكل المقدمة لمجيء المسيح الثاني إلى الأرض كملكٍ منتصر.
ولكي نكون على فهم أكبر حول ما الذي يتغلل في فهم هذه الكنيسة من أبعاد تتعلق بالقدس المحتلة تحديداً؛ علينا أن نعرف أكثر عن مصطلح “الصهيونية المسيحية”، والذي انتشر بين الكثير من أفراد الإدارة الأمريكية، وعالم السياسة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ فما الذي يعنيه هذا المصطلح؟
الصهيونية المسيحية:
إذا أردنا الحديث عن “الصهيونية المسيحية” أو يحلو للبعض تعريفها باسم “الصهيونية غير اليهودية”، فهو الاسم الذي يطلق عادة على معتقد جماعة من المسيحيين المنحدرين غالباً من الكنائس البروتستانتية الأصولية، تقول عن نفسها إنها تعمل من أجل عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين، وسيادة اليهود على الأرض المقدسة، وتؤمن بأن قيام “دولة إسرائيل” عام 1948 كان ضرورة حتمية لأنها تتمم نبوءات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وتشكل المقدمة لخرافة مجيء “المسيح الثاني” إلى الأرض كملكٍ منتصر.
ويعتقد الصهاينة المسيحيون أنه من واجبهم الدفاع عن “الشعب اليهودي” بشكل عام وعن “الدولة العبرية” بشكل خاص، ويعارضون أي نقد أو معارضة “لإسرائيل” خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يشكلون جزءاً من اللوبي المؤيد “لإسرائيل“.
مارتن لوثر والثورة على الكاثوليكية:
لا يمكننا تناول حقيقة الخبث والمكر اليهودي، وكيف انقلبت عداوة النصارى لليهود إلى صداقة وتعاون، بعد إن كان اليهود في نظر المسيحيين مارقين مفسدين يجب استئصالهم واضطهادهم دون التوقف عند «مارتن لوثر» مؤسس المذهب البروتستانتي المسيحي الذي ظهر في ألمانيا في القرن السادس عشر الميلادي؛ حتى يكتمل الحديث وتتضح الصورة جيداً، حيث ساهمت معتقدات «لوثر» ومؤلفاته في جعل كلمة اليهود هي العليا، وساهمت في إخراج اليهود من “الشتات اليهودي” و”الاضطهاد المسيحي” إلى “شعب الله المختار صاحب الأرض الموعودة”.
وتجلت مواقف «لوثر» من اليهود، ومناداته بوجوب العمل به، إذ كان من أوائل من نادى بفكرة (أرض الميعاد) و(شعب الله المختار) من غير اليهود، ولعل كتابه (المسيح وُلِدَ يهودياً) خير شاهدٍ على ذلك، مع أنه عاد في أواخر أيامه عن معتقداته تلك وكتب كتاباً آخر يناقض تماماً ما ذهب إليه في كتابه الأول حول اليهود، حيث حمل الكتاب الثاني عنوان (أكاذيب اليهود)، ولكن هذا الكتاب لم يأخذ شهرة كتابه الأول ولم يصل إلى مكانته؛ حيث حافظ كتابه الأول (المسيح ولد يهودياً) على قوة تأثيره حتى أصبح المستند الأول والركيزة الأساسية التي ينطلق منها التيار المحافظ في الولايات المتحدة الأمريكية في رسم معتقداته وسياساته.
ولبيان موقف «مارتن لوثر» من التقرب إلى اليهود لابد من التوقف عند بعض كتبه، حيث أصدر «لوثر» عام 1523، كتابه الشهير «عيسى ولد يهوديًا»، الذي جسد حقيقة التحول الجذري في العلاقة بين اليهود ومجتمعاتهم المسيحية، حيث دعا «لوثر» إلى اعتبار «العهد القديم» مركز العقيدة الجديدة، وأساس الدعوة البروتستانتية، وحث أتباعه على تعلم اللغة العبرية؛ لفهم تعاليم التوراة وشروحاتها، كما أكد على أهمية إحياء التراث والثقافة اليهودية، وقام بترجمة التوراة إلى اللغة الألمانية ليقرأه عامة الناس والمتدينون على السواء، ولا يكون حكرًا على رجال الدين.
وبذلك أسهم «لوثر» في تهيئة الأوروبيين للقبول بعقائد جديدةٍ تخالف تلك التي أورثتهم إياها كنيسة “روما” جيلاً بعد جيلٍ. وقد كانت تلك التهيئة النفسية ضرورية لقبول المزيد من العقائد الجديدة، وفي الوقت ذاته لإعادة بعث عقائد قديمة كعقيدة (الشعب الذي اختاره الله) و(الأرض الموعودة).
أثر البروتستانتية في تغيير في طبيعة العلاقة بين اليهود والنصارى:
اعتبرت دعوة «لوثر» انقلابًا على موقف الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تنظر لليهود على أنهم حملة لدم المسيح عيسى بعدما صلبوه، حيث دأبت الكنيسة الكاثوليكية على تحميل اليهود المسؤولية الكاملة عن مقتل المسيح.
وكان بعض المسيحيين في أوروبا يحتفلون بمقتل المسيح عن طريق إحياء طقوس عملية الصلب، بل وكان سكان مدينة تولوز الفرنسية يحرصون على إحضار يهودي إلى الكنيسة أثناء الاحتفال ليتم صفعه من قبل أحد النبلاء بشكل علني إحياء لطقس الضرب الذي تعرض له المسيح من قبل اليهود.
وكان لحركة الإصلاح الديني “البروتستانتية” أثر كبير في إحداث تغيير في طبيعة العلاقة بين اليهود والنصارى، لاسيما وقد كان جميع النصارى قبل عصر الإصلاح الديني بقيادة البابا يعادون اليهود ويقودون حملات التطهير والإبادة ضدهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وأن الكنيسة الكاثوليكية حافظت على موقف ثابت من المسألة اليهودية يقوم على رفض التصالح مع اليهود إلَّا إذا اعترفوا بالمسيح واعتنقوا النصرانية، بالإضافة إلى أنه لم يكن في الفكر الكاثوليكي التقليدي قبل عهد الإصلاح الديني أدنى مكان لاحتمال العودة اليهودية إلى فلسطين، أو لأية فكرة عن وجود الأمة اليهودية، وكان القساوسة يرفضون التفسير الحرفي للتوراة ويفضلون الأساليب الأخرى للتفسيرات اللاهوتية وبخاصة التفسيرات المجازية التي أصبحت الأسلوب الرسمي للتفسير التوراتي كما وضعته الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.
ومن هنا، جاءت البروتستانتية فشكلت مسار التغيير في كل ما سبق، فانقلبت الأمور إلى اتجاه معاكس تمامًا لما كانت عليه المسيحية قبل عصور الإصلاح الديني “البروتستانتية”، فحصل اليهود من هذه الحركة على ما لم يكونوا يحلمون به، وبدأت النظرة إلى اليهود تتغير تدريجيًا.
إذا جئنا لقراءة وتحليل ما تضمنه كتاب «لوثر» لوقفنا على جُملةٍ من الحقائق والنتائج أبرزها أن «لوثر» وبطريقة غير مباشرة قد برّأ اليهود من دم المسيح، وأنه رفع من قدر اليهود، وجعلهم أسياداً للنصارى، وبناءً على ذلك فهم الناس أن اليهود هم شعبٌ سامٍ اختاره الله لهذه السيادة، وتكتمل سيادة الشعب اليهودي بوصفهم “أخوة للرب”، وكذلك إثارة التعاطف مع اليهود وقضاياهم والتوقف عن معاملتهم كالكلاب.
ولما نشر «لوثر» كتبه تلك تسابق اليهود إلى تداولها والترويج لها في أوروبا كلها، وأكدوا على فهمها ضمن أُطرٍ ثابتة محددة هي أن (اليهود شعب الله المختار)، ، ثم توسعت هذه الأطُر لتشمل (أرض الميعاد)، و(لا عودة ثانية للمسيح إلَّا بعد عودة اليهود إلى أرض الميعاد وإعادة بناء الهيكل)، وما إلى ذلك من المعتقدات الخرافية التي نمت وتطورت وأصبحت قوتاً يومياً لكل “بروتستانتي”.
العوامل التي أدت إلى انتشار البروتستانتية:
كانت الكنيسة قبل حركة الإصلاح الديني تمارس تسلطًا على رقاب النصارى، وتكبت حرياتهم، وتفرض آراءها عليهم، ولو كانت مخالفة للعلم، وتنتقم ممن يخالف تعاليمها ولو كان نابغًا بالحرق أو القتل، وزاد من تسلطها أنها استأثرت بفهم الكتاب المقدس وتفسيره دون سائر النصارى، وما على الآخرين إلا قبول آرائها وتفسيراتها دون نقاش، وبلغ انحرافها ذروته عندما أصدرت (صكوك الغفران) للمذنبين! يشتريها المذنب من الكنيسة ليضمن بعدها أنه مغفور له من الله تعالى عن أقولهم.
ونتيجة لما عانته الشعوب الأوربية من فساد السلطة الكنسية، وتفشي نظام الإقطاع وانتشار الجهل فقد تهيأت قلوب هذه الشعوب لتصبح تربة صالحة تنشأ فيها البروتستانتية وتترعرع، ونتيجة لجهود «مارتن لوثر» وغيره انتشرت البروتستانتية وسيطرت على مدن بأكملها، بل على دول كاملة، وخلال سنوات قليلة أصبحت البروتستانتية العقيدة الرسمية لها مثل ألمانيا وسويسرا وفرنسا وإنجلترا وهولندا… وصولاً إلى أمريكا.
الهوامش:
-
ريجينا الشريف، ترجمة: أحمد عبد الله عبد العزيز، الصهيونية غير اليهودية وجذورها في التاريخ الغربي، سلسلة المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1985.
-
فدوى بنيعيش، كنيسة البروتستانتية وعلاقتها بالمسيحية الصهيونية، 2007م، موقع قناة الجزيرة:
-
أحمد طـه الغندور، التحريض الصهيو أمريكي على القدس، دراسة منشورة على موقع المركز الديمقراطي العربي.
- راجح إبراهيم محمد البساتين، المسيحية البروتستانتية وعلاقتها بالصهيونية بالولايات المتحدة “دراسة عقدّية تحليلية”، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الدراسات العليا، الجامعة الأردنية، 2007م، ص28.
-
معاذ الحاج أحمد، الثالوث المقدس… «البروتستانتية واليهودية والصهيونية»، موقع ساسة بوست.
-
سليمان بن صالح الخراشي، كيـف تطورت العلاقة بين اليهود والنصارى من عداوة إلى صداقة…؟!، روافد للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1430هـ-2009م.
*نقلا عن : موقع أنصار الله