القوي الذي يظلم اليتيم يُذله ويُهينه ويستبيح حقوقه ركونا إلى قوته الآنية وركونا إلى استمرار ضعف اليتيم..
الظالم هنا يظن الزمن جامدا لا يتحرك، ويظن أنه يسيطر على كافة المتغيرات رغم أن المتغيرات هي التي تتحكم به ولا يتحكم هو سوى بأقل القليل.
سنن الحياة أن اليتيم يزداد مع مرور الوقت قوة، بينما الظالم يزداد مع مرور الوقت ضعفا و *تدريجيا* لا بد أن يأتي اليوم الذي تنقلب فيه الموازين ويجد الظالمُ نفسه أضعف من اليتيم بل وتحت رحمته.
ومن الممكن أن يحدث ذلك الانقلاب في الموازين دون تدريج *لسبب طارئ* كحدوث مرض عضال للقوي أو تعرضه لمحنة تصيبه في أسباب قوته المادية فلا شيء مضمون في الحياة طالما سهام الأقدار تصيب الجميع.
وقد يُستدفع ظلمُ القوي عبر *المقاومة* التي يستخدمها الضعيف بصبر وحكمة لتُصبح سببا لخلق نوع من التوازن رغم الفجوة في موازين القوة مما يؤدي لدفع أذى القوي أو يحد منه على الأقل لأن الضعيف بالمقاومة لا يكون فريسة سهلة رغم ضعفه المادي إذ يصبح قادرا على التسبب في إزعاج القوي وإنهاكه وتضخيم نقاط ضعفه ليضطر القوي في النهاية لإعادة النظر في تقييم ضعف الضعيف الذي يتسم بالحكمة ويتدرع بصبر كالصخور وثبات كالجبال.
وفي مجال رياضة الملاكمة مثلا استخدم الملاكم محمد علي كلاي استراتيجية الإنهاك هذه ضد ملاكم كان يُعتبر أقوى منه ونجح فعلا في إسقاطه بالضربة القاضية قبل نهاية المباراة، وما كان لينجح في صنع هذه المعجزة الرياضية لولا قدرته على امتصاص الضربات الهائلة التي وجهها له خصمه القوي بصبر وثبات ولولا إدارته المعركة بحنكة وذكاء.
لكن فوق هذه القراءة المادية هناك بُعد معنوي هام ينبغي الالتفات إليه ألا وهو طالما يشعر القوي أن كرامة الضعيف تأبى عليه خيار الاستسلام فسيتردد قبل أن يتورط معه في معركة سيما إذا كان الضعيف مسلحا بيقين ببُعد غيبي يحفزه لخوض غمار معركة غير متكافئة ماديا مع من هو أقوى منه.
وهذا البعد الغيبي هو أن الضعيف سيحصل على مدد إلهي غير منظور يجعل وقع ضرباته المحدودة أضعافا مضاعفة تتجاوز الحسابات المادية المنظورة..
إذا استحضر كل قوي جميع ما سبق ووضع له حسابا أثناء تعامله مع من هم أضعف منه فلا بد أن يُصبح سلوكه مختلفا تجاههم بما يتناسب مع حجم التغير في نظرته لهم ولنفسه ولسنن الحياة.
أما لو كان هذا القوي بنفسه مؤمنا برقابة الله في الدنيا وحسابه العسير في الآخرة فإن الرادع له عن استضعاف الضعيف سيكون رادعا ذاتيا سيروض وحشيته في كل لحظة يؤمن فيها إيمانا صادقا بالله واليوم الآخر.
في حالة إيمان القوي لا نحتاج إلى تدريج ولا إلى سبب طارئ يقلب الموازين ولا إلى مقاومة، بل تكفي القناعة الراسخة بالله واليوم الآخر لدى القوي لتقويم سلوكه وعلاجه من داء الطغيان.
بهذه القراءة نعرف أن جملة جرائم الاستضعاف إنما منشأوها هو "الكفر" الذي يجعل الأقوياء طغاة لأنهم يفكرون بعقلية مادية بحتة يغترون في ظلها بأسباب قوتهم ويحتقرون الضعيف وضعفه ولا يعتبرون هذه المعطيات واقعا مؤقتا أو ابتلاء مرقوبا أو مسؤولية محسوبة بدقة شديدة.
الجنون الصهيوني في غزة وفتاوى الإرجاء
من تؤلمه الجرائم الصهيونية واستهدافها المتعمد للمشافي والجوعى والأطفال وقتلها آلاف الفلسطينيين لأجل القتل، يُدرك أن من حق العرب الآن معاملتهم بالمثل إن تمكنوا منهم سيما وجميعهم مستوطنون غزاة قاموا على أنقاض فلسطين! لكن العرب لا يستطيعون لذلك سبيلا بسبب الفجوة المادية الهائلة بينهم وبين الصهاينة الأكثر قوة والأشد تحصينا لذلك يتجرأ الصهاينة على مختلف الجرائم العلنية القبيحة بل يهربون إليها عندما يفشلون عسكريا لتحقيق نوع من الانجاز ولابتزاز الأحرار المقاومين بمعاناة مواطنيهم المدنيين.
الصهاينة في هذا النموذج لا يضعون في الاحتمال أن الموازين قد تتغير وأن يوم تفكيكهم قد يكون أقرب مما يتصورون لأنهم يظنون أنهم يُسيطرون على كافة المتغيرات، كما أنهم يُراهنون على استمرار ضعف العرب وتفككهم وابتعادهم عن ثقافة الشهادة والجهاد.
ولأن الصهاينة فوق هذا وذاك يكفرون بيوم المعاد وساعة الحساب أو يؤمنون بهما لكن بطريقة خاطئة مشوهة تجعلهم يتصرفون بهذه الطريقة الإجرامية الجريئة التي لا تعمل لشيء حسابا.. لا لله ولا لليوم الآخر..
لذلك فقد اهتم أئمة الهدى ببيان خطورة الأفكار الاعتقادية الضالة وبذلوا في ذلك الوقت والجهد لأنها تُجهض الإيمان وتُلغي الشعور بالمسؤولية كالشرك بالله والاعتقاد بالإرجاء الذي يُسقط وعيدَ الله القطعي الذي هو جزء أساسي من الخطاب القرآني الإلهي لأغراض تربوية عميقة وحكيمة لا مجال للقفز عليها..
وعندما تسمع داعية يتطرف في الإرجاء ويتمسح بفكرة التسامح الإسلامي أثناء استباحة غزة وينقض الوعيد الإلهي للكافرين والمجرمين والخاذلين، ويُمنّي الجميعَ ضحايا ومجرمين بالخلاص بين يدي الله وكأنما أخذ من الله موثقا فهذا مستوى غير مسبوق من الترويج للمعاصي والإغراء للإجرام يقف إبليس أمامه مشدوها لأنه يُلغي دوره تماما ويحل محله بل ويتجاوزه، والله المستعان