بعد استغلال مستشار بن زايد أنباء الانسحاب في إيصال الرسائل لحلفاء وخصوم أبو ظبي- التي ناقشتها الحلقة الاولى من هذه القراءة- عاد عبدالله إلى موضوع التبرير للانسحاب، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ما احتوت عليه الرسائل السابقة يوضع في سياق المبررات، من قبيل الصراع مع الرياض على المغنم والمغرم، أو تحاشي الرد اليمني، وكذلك الابتعاد عن خطر اندلاع اشتباك محتمل بين طهران وواشنطن، بالإضافة إلى ذلك ساق المستشار إياه عددا من الاسباب والمبررات المتنوعة بين السياسي والميداني والإنساني..
من الناحية السياسية ربط المستشار الإماراتي مزعوم الانسحاب باتفاق استوكهولم، وأشار في حديثه إلى أن الوقت الآن هو للمبادرات غير التقليدية والتنازلات الشجاعة، وهنا تتقافز الاسئلة الكبيرة في وجه حكَّام الإمارات: فأين كانت هذه الشجاعة مدفونة منذ خمس سنوات؟ ثم عن أي تنازلات يتحدثون، هل سيسلَّمون دبي مثلا؟ المطلوب من الإمارات ليس التنازل، لأنها لا تملك أي حق، وكل ما في الأمر هو أن تتخلى أبو ظبي عن أوهام التوسع، وتعود الى حجمها الطبيعي، وتترك النهج الذي تغريها به خزائن الأموال، وتدع هي والرياض شعب اليمن يقرر مستقبله دون وصاية، فاليمنيون هم أهل الإيمان والحكمة، وهم أرق قلوبا وألين أفئدة، بشهادة خير الأنبياء وخاتمهم -صلوات الله عليه وعلى آله- وليسوا غلاظا كبدو الصحراء، لا سيما عندما يتخلصون من التأثيرات والضغوط التي تمارس على بعضهم في فنادق الرياض وأبو ظبي..
وبخصوص اتفاق السويد، لماذا لم يتم الى الآن تنفيذ اتفاق استوكهولم إن كنتم تضعونه في هذا المكان من الأهمية؟ ألستم من يعرقل جهود إعادة الانتشار، ووقف إطلاق النار، وتدفعون بمرتزقتكم في فرق التنسيق إلى رفض كل الحلول والمقترحات والمبادرات وما أكثرها، وهي مبادرات حصلت على إشادة حتى من الأمم المتحدة التي تقف معكم وإلى جانبكم في عدوانكم على اليمن أين أنتم من مبادرة إعادة الانتشار التي تم تنفيذ مرحلتها الأولى من طرف واحد، إن كنتم حريصين على السلام وإتاحة المجال لهذه الجهود؟ فقد بات واضحا أن ما تحكيه افعالكم يخالف ويتناقض بشكل كبير مع ما تضج به أقوالكم..
وليس بعيدا عن الشق السياسي -ولكن من جهة غير مقصودة للكاتب- عندما قال: (فقد أكد أكثر من مسؤول إماراتي أن الإمارات ودول التحالف العربي تمكنت من تدريب وتسليح قرابة 90 ألف جندي داعم للشرعية في اليمن) وإذا وضعنا خطا تحت دعم الشرعية في اليمن وأهملناها قليلا، فقد أشار إلى أمر لم يعد خافيا على أحد من أبناء الشعب اليمني، وقد أكدته تقارير خبراء مجلس الامن حول ممارسات الامارات في جنوب اليمن، وإنشاء مليشيا تابعة لها، بعيدا عن الدولة اليمنية، وبعيدا عن الشرعية المزعومة التي يتذرعون بها لغزو واحتلال اليمن، وإن صح الانسحاب المزعوم ولم يكن مجرد خدعة، فإنه دليل بيِّن على الاهداف الحقيقية من عدوانها على اليمن، وتأكيد أن الشرعية الوهمية مجرد شمَّاعة قذرة علَّقت عليها الرياض وأبوظبي اهدافا خبيثة للانقضاض على اليمن وثرواتها..
أما من جهة الميدان- وهنا مربط الفرس- فبعد أن تحدث عبدالخالق عن (تقليص القوات الى نصف العدد الراهن الذي يبلغ 5000 جندي، كما سيشمل سحب الآليات والمدرعات والدبابات والأسلحة الثقيلة وطائرات الهليكوبتر ونظم الدفاعات الصاروخية والاعتراضية المتطورة من عدة جبهات) برر ذلك بالهدوء الذي تشهده جبهة الساحل الغربي، رغم أن الخروقات مستمرة بشكل لم تعد مجرد خروقات، فهناك زحوفات ومحاولات تسلل وقصف مكثف على عدد من المناطق والمديريات، ولا ننسى أن المدنيين في مديرية الدريهمي لا يزالون يعانون تحت الحصار..
إن تبرير الكاتب بأن ( الانخفاض الكبير في المواجهات اليومية في ساحات القتال هو الدافع الأهم لخفض التواجد العسكري الإماراتي في اليمن) يجعلنا نضع أيدينا على النقطة الأهم ميدانيا والتي التف عليها الكاتب هنا، وذلك فيما يخص السبب وراء انخفاض المواجهات، وهو حجم الخسائر التي تكبدتها قوات العدوان ومرتزقتها في جبهة الساحل الغربي بالتحديد، وهي الخسائر التي أجبرتهم على الذهاب إلى السويد والخروج بإعلان الاتفاق لحفظ ماء وجههم، وتجنب الهزيمة المنكرة، والخروج بما تكبدوه من الخسائر، ورغم أن الاتفاق لم يوفر لهم كل ما يريدون ويحلمون به من أهداف، إلا انهم ما كانوا ليقبلوا به لو شعروا للحظة أن بيدهم أخذ المزيد من المكاسب عسكريا..
الجرائم في اليمن لا يمكن أن يحاسب عليها أفراد فقط، بل هي من جرائم الدول والأنظمة..
وأخيرا في المجال الإنساني، وهو المجال المؤرق لدول العدوان والاكثر حساسية لاسيما في ظل التقارير الحقوقية والانسانية التي تصف ما يجري في اليمن بأكبر مأساة في العالم من صنع البشر، وتحمِّل كل هذ التقارير الدولية والاممية المسؤولية المباشرة على عاتق الرياض وأبو ظبي، بالإضافة الى تقرير خبراء مجلس الأمن الذي وضع أسماء قادة والسعودية على قائمة المسؤولين الذين يجب مساءلتهم عن الجرائم المرتكبة في اليمن، وفي تقريرهم الاخير أكد الخبراء أن الجرائم في اليمن لا يمكن أن يحاسب عليها أفراد فقط، بل هي من جرائم الدول والأنظمة، وبما يعنيه هذا التوصيف فإن مستقبلاً أسود ينتظر هؤلاء الحكام المجرمين، ولهذا فإن عبارة الكاتب ( لا أحد يستطيع بعد قرار سحب قواتها من اليمن أن يضع اللوم على الإمارات أنها مسؤولة عن إطالة الحرب في اليمن) كانت تعبيرا واضحا عن عميق القلق لدى حكام الإمارات من هذا المصير المحتوم، والذي يليق بقتلة أطفال ونساء اليمن..
لكن، ورغم أن الكاتب يتحدث عن عدم لوم الإمارات بعد انسحابها من اليمن، إلا أنه فيما يبدو يُمنّي نفسه ويوهم أولياء نعمته بأنه بمجرد خروجهم من اليمن لن يكونوا مسؤولين عما جرى فيها.. فمن أعطى الإمارات أو غيرها صك الغفران من جرائمها بحق الشعب اليمني المستمرة منذ أكثر من أربع سنوات؟ وهي الجرائم الوحشية التي حصدت عشرات الآلاف من المدنيين، وهدمت عليهم منازلهم ليلا، وقتلتهم في أعراسهم وعزائهم وأسواقهم ومدارسهم، في أي شريعة بل في أي دين أو أي عُرف أن هذه الدماء والأيتام والأرامل والدمار والجوع الذي خلَّفه عدوانكم لا تسقط بالتقادم، لابد من يوم يدفع فيه المجرمون بحق شعب اليمن ما يكون شفاء لصدورهم وإيفاء بحق شهدائهم ورفعا لرؤوسهم وتثمينا لتضحياتهم..
وفي الختام، فإننا أمام مرحلة جديدة ستأخذ مسارات جديدة أيضا، سياسيا وعسكريا، ويجب أن لا ننخدع بالانسحاب الإماراتي المزعوم، لا سيما والامارات لا تزال تستقبل مئات من العناصر المرتزقة لتدريبهم في أراضيها، ورغم ايماننا الراسخ بأن الاحتلال المفروض والعدوان على بلادنا إلى زوال حتمي، عاجلا أو آجلا، إلا اننا لا يمكن أن نتحدث عن أي انسحاب لأي كان، إلا عندما يتم تطهير اليمن من كل وجود للغزاة والمحتلين، وسيكون ذلك قريبا بإذن الله.