أكبر عقبة أمام تخليص الفكر والثقافة من المرويات المدسوسة على الإسلام وعلى الرسول، هي تلك الأدمغة المفخخة بهذه المرويات، وهي ليست بالضرورة أدمغة وهابية حصراً، بل من كل تيار ومشرب.
يخطئ من يعتقد بأن الوهابية انحصار أيديولوجي فئوي مضروب على مذهب بعينه أو مجتمع ما دون سواه من المجتمعات المكونة للأمة.. إنها نزوع نفسي واجتماعي وسياسي واسع النطاق تبلورت وتتبلور أطره المتعددة تحت الرعاية الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة، وبنكهات وأقنعة شتى قد تبدو متضاربة من حيث ملامحها وروائحها ويافطاتها وعناوينها، لكنها تنحدر من جوهر واحد، وتنتظم أصحابها مواقف متماثلة، فعلى سبيل المثال تقاطَعَ (تَلاقي) القومي واليساري والإخوانجي العربي في مصب واحدية الموقف المعادي لإيران الثورة الإسلامية بذرائع متباينة تعدياً إلى تشارك المخاوف إزاءها مع العدو الصهيوني.
هذا التلاقي هو ذاته الذي جعل مفكراً يسارياً (مجازاً) كبرهان غليون، يتخندق في نسق واحد مع "دواعش العدوان على سوريا"، وغيره كثيرون كـ"أسامة كيلة ومارسيل خليفة"، كما جعل الناصري اللبناني "أسامة سعد" اليوم يتشاطر تحت عناوين ثورية طرحاً تضليلياً واحداً مع الداعشي البرلماني خالد الظاهر و"جعجع" قاتل أبيه والعميل الصهيوني ذائع الصيت.
إن الوهابية ليست طريقة في عبادة الله وتوحيده، بل طريقة في تعبيد الأمة لأمريكا وتكريس واحديتها باسم توحيد الله، وهو مسلك ينتهجه اليوم علناً غالبية اليسار والقوميين والحداثيين العرب باسم ماركس وعبدالناصر والدولة المدنية الحديثة والعلمانية.
لقد رفع "الجهاديون، المتدينون" الإسلام كشعار تعبوي في الحرب الأمريكية على الاتحاد السوفياتي "الملحد" نهاية الثمانينيات ومطلعها، في الوقت الذي كان "الجهاديون القوميون" يرفعون العروبة كشعار في الحرب الأمريكية على إيران الثورة "الفارسية"، والذين قاتلوا خلف "صدام حسين" حينها، لم يكونوا أقل توهبناً وتأمركاً ممن قاتلوا خلف "الزنداني وعزام وبن لادن".. فالفريقان باسم الأمة نهضا بلواء مصالح غير مشروعة تخص أعداء الأمة، كما يفعل المنحدرون من ذات المسار اليوم في عدوانهم على اليمن وسوريا، وتآمرهم على القدس والقضية الفلسطينية ولبنان والعراق بالتمام.
إن الوهابية -إذن- هي خروج على طاعة الحاكم والزعيم والنظام الخارج على حظيرة الطاعة الأمريكية سواء كان شيعياً أو سنياً أو عربياً أو "لاتينياً"، وبالنقيض فإنها طاعة وإذعان غير مشروط للحاكم والزعيم والنظام المذعن والداجن في الحظيرة الأمريكية بلا حدود. الوهابية بهذا الفهم لا تعود "فقه طاعة" على الدوام، ولا صاحبة التأصيل الحصري لهذا الاصطلاح السياسي الديني.
إن التضاد الحقيقي ليس في الوسائط، وإنما في الغايات التي تنهض بها هذه الوسائط، وقد تتباين الأخيرة بما يوحي ظاهرياً بالتضاد، غير أنها تفضي من حيث المصب إلى غاية مشتركة؛ على نحو ما تتباين يافطات المكونات المشرعنة للعدوان على اليمن والمنخرطة فيه.. لم ينشأ هؤلاء المتباينون كطفرة مقطوعة الصلة بواقعنا اليمني الراهن، ولا كانوا نتاج ولادات اللحظة المتزامنة مع العدوان الكوني.. إنهم ذوو جذور لها امتداداتها بهذا الواقع الاجتماعي السياسي الثقافي والفكري السائد منذ ما يربو على نصف قرن في المنطقة العربية والإسلامية، بما فيها اليمن، ولذا فإن تخليص منظومة تفكيرنا ومناهجنا من هذه العاهات بما ينهي استمرار ولادات خيانية شاذة من قبيل خلطة عملاء العدوان ومرتزقته، يشبه عملية استئصال رحم جذرياً، وهذا يقتضي تخليص مسار الإسلام المحمدي تاريخياً من كل المدسوسات التي تحولت بمر القرون إلى متن متعاظم، في حين أصبح الإسلام القيمي الثوري المحمدي بمثابة هامش باهت لها.
هل سيعي المعنيون على مناهجنا وكتبنا وأبحاثنا وإعلامنا وتعليمنا، المغزى الواسع والرحب لحديث سيد الثورة عن ضرورة تنقية الإسلام من المرويات والفهوم والقيم الخاطئة والباطلة المنسوبة إليه وإلى رسول الهدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ أم ستستمر الطمأنينة السائدة لجهة أن الوهابية حكر فقط على فئة ومذهب بعينه، وأن ساحتها الوحيدة هي كتاب "توحيد الزنداني"، ولا تتعداه إلى الأحياء والفيزياء والتربية الوطنية والتاريخ، متكاثرة متناسلة من حلقات التحفيظ والحديث سواءٌ بسواء مع مراكز البحوث في الجامعات ومعامل التشريح والمختبرات، ومن كتب محمد بن عبدالوهاب والألباني، كما من كتب محمد عابد الجابري وحمود العودي. وأما مقراتها فموصولة الدهاليز من تنظيم العتواني مروراً إلى حزب ياسين نعمان و"معبر الإمام" ومقرات الإصلاح وشركاته.
* نقلا عن لا ميديا