إلا أن حسابات كبير مستشاري الرئيس الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، والمهندس الأول لصفقة القرن، اليهودي جاريد كوشنير، قد أخطأت التقديرَ وجانبت الصوابَ، فخاب أملُه وطاش سهمُه ووقع في شر عمله، واصطدم بصخرة الشعب الفلسطيني الصماء وعزمه المضاء، الذي أعلن بكل أطيافه السياسيّة ومعتقداته الفكرية وانتماءاته الحزبية، ومن كُـلّ مناطق تواجده في الوطن والشتات، أنه يرفض صفقة القرن ولا يقبل بها، بل لا يعترف بوجودها ولا يسمح لنفسه بالتفكير فيها، ولا يرى أنها أَسَاساً للحل أَو منطلقاً للحوار وقاعدةً للتفاهم واللقاء، بل يعتبر أنها وُلدت ميتةً ولن يُكتَبَ لها الحياةُ، شأنُها شأنُ كُـلّ المبادرات السابقة والمشاريع المشابهة، التي طُرحت لخدمة الكيان الصهيوني ومساعدته وتحقيق أهدافه وإنقاذه من أزماته، وتجاوزت حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه.
صَدَمت صلاةُ الفجرِ والحشودُ الشعبيّة والعمليات الفرديةُ وأصوات السلطة الفلسطينية المعارضة لصفقة القرن، جاريد كوشنير، وأغاضته كثيراً المبادرات الشبابية والفعاليات اليومية، وأزعجته عمليات الذئب المنفردة، التي انتشرت بسرعة وعمَّت المناطق المختلفة، وحركت الشباب بالقدوة والإيحاء، وبالغيرة والأُسوة، فيما يشبهُ شرارة انتفاضةٍ جديدةٍ قد تعُمُّ الأراضي الفلسطينية كافةً، وتشغَلُ جيشَ الاحتلال بمهامٍ جديدةٍ، وتلقى عليه مسؤولياتٍ كبيرة، تشبه إعادة احتلال الضفة الغربية بالكامل، وهو ما لا يقوى عليه الجيش وما يخاف منه، فالقيامُ بعملياتٍ أمنيةٍ ودورياتٍ عسكريّة بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، يختلفُ كلياً عن احتلال مدن الضفة الغربية وبلداتها، والنزول بالدبابات والعربات المصفحة إلى الشوارع والطرقات، فهذا الوضعُ سيكون مكلفاً عسكريّاً وأمنياً واقتصادياً ومحرجاً سياسيّاً للكيان الصهيوني.
كأن كوشنير قد أدرك المطبَّ الذي وقع فيه، والمأزق الذي وصل إليه، وأدرك أن القضية الفلسطينية ليست بالمسألة التي يستطيع حلَّها ببعض المذاكرة مع صديق العائلة القديم بنيامين نتنياهو، الذي يعيشُ أزمةً كبيرةً ويسعى للخَلاصِ منها بكل السبل الممكنة والوسائل المتاحة، فعكف وإياه مع بعض المساعدين لهما على وضع التصورات الشيطانية ورسم الخطط البهلوانية، وتصميم الخرائط الفسيفسائية، ظناً منهما أنهما سينجحان في بضعة أيامٍ في طي قضية القرنين، وإسدال الستار على أم القضايا العربية والإسلامية، وشطب قضية فلسطين وإلغاء هويتها، وإعلان يهودية الدولة العبرية، وإضفاء الشرعية عليها، وتمكينها بالعيش الآمن في الأرض التي اغتصبتها، وبالحقوق التي صادرتها.
لكنه علم يقيناً أن علاجَ القضية الفلسطينية لا يكون بالأماني الشخصية والطموحات الدينية، ولا بالقدرات الذاتية والجهود الفردية، أَو بعلاقات القرب والمصاهرة وروابط الدين والسياسة، ولا بعقلية الكابوي الأمريكية ولا بعنجهية ترامب وعنتريته، ولا بتغريداته العجيبة وتصريحات الغريبة، أَو بوقفته المغرورة وقامته الراقصة المهزوزة، ونظرات عيونه الزائغة الحائرة وتصريحاته الساخرة، وأن فرض صفقته على الشعب الفلسطيني لا تكون بالتجويع والحصار، أَو بالحرب والعدوان، فلجأ إلى التهديد والوعيد، والاتّهام والتعريض، والتشويه والإساءة، والفتنة والتأليب، وكأنه يدق طبول الحرب ويطلق صافرة معركة إخضاع الشعب الفلسطيني وتركيعه، وكسر إرادته وتطويعه، ويمهد لعمليات تصفيةٍ وجرائم قتلٍ، ومحاولات تغييبٍ وتغييرٍ في الوجوه والشخصيات، عله يجد من يتعاون معه ويتآمر وإياه، ويقبل عرضه ويوافق على صفقته.
غِـــرٌّ هو كوشنير، قليلُ الخبرة ضحل التجربة، جاهلٌ لم يقرأ التاريخ، وأميٌّ لم يدرك تجارب الشعوب، وسفيهٌ لا يعرف الكرامةَ ولا يقدّر معنى الوطن، يظُنُّ أن الشعبَ الفلسطيني يقفُ متسولاً على بابه، ينتظر منه إحسانه وفتاته، ويقبل منه عطاءه وفضله، وما علم أن الشعب الفلسطيني ومن خلفه الأمة العربية والإسلامية، تقف صفاً واحداً من أجل فلسطين وقدسها، تضحي في سبيلها، وتفدي القدس والأقصى بأرواحها، وتقاتل لتحريرها واستعادتها حتى آخر قطرة من دمها، وهم على يقينٍ بالله ربهم وعليه يتوكلون، أن فلسطين لهم والقدس ستعود إليهم، كما حيفا والجليل واللد والرملة وكل أرض فلسطين التاريخية، من بحرها إلى نهرها، وسترتفع فوق تلالها أعلام فلسطين الحرة المجيدة، وسيصدح أقصاها ومساجدها بنداء الله أكبر، وستدق كنائسها أجراس العودة، وسنردّد جميعاً في رحاب المسجد الأقصى المبارك وكنيسة القيامة ترانيم النصر وآيات الشكر.
* كاتب فلسطيني