غيَّبت أخبار جائحة كورونا وتداعياتها المتوالية العديد من القضايا الساخنة في العالم، ومنها خبر متعلق بصراع الأقطاب ومستقبل العلاقات الاقتصادية بين الدول الكبرى، وما قد يترتب عليه من تغيير جذري في بنية النظام الدولي الذي انفردت الولايات المتحدة الأمريكية بقيادته منذ عدة عقود قبل أن يظهر التنين الصيني لينافس واشنطن، ويعمل بدأب على سحب البساط من تحت أقدامها بالتعاون مع اقتصادات شرقية ناهضة مثل روسيا والهند.
وقد أثمر العمل الصيني الحثيث مؤخراً، وأمكن لدول منظمة شنغهاي للتعاون، الاتفاق على محاصرة الدولار الأمريكي، من خلال تبادل السلع التجارية بالعملات المحلية لهذه الدول، في خطوة عملية من شأنها تعميق مأزق الاقتصاد الأمريكي الذي يتعرض لأزمة مزدوجة جراء تعاظم انتشار الإصابات بفيروس كورونا وتداعياته على البطالة والاقتصاد، بالموازاة مع تراجع أسعار النفط عالميًا وتأثيره على الشركات الأمريكية التي تنتج النفط الصخري.
وتأتي خطوة دول شنغهاي الأخيرة لتشكَّل ثالثة الأثافي بالنسبة لدولة تفرض تفوقها الاقتصادي، من خلال القهر والهيمنة وفرض الأمر الواقع على شتى دول العالم إلا القليل منها.
لقد شكَّل الدولار الأمريكي الوجه الآخر للهيمنة الاقتصادية الأمريكية، فبالإضافة إلى كونه العملة العالمية التي اقترنت بأهم سلعة تجارية وهي النفط، فإن تركيبة الاقتصاد الأمريكي نفسه سمحت وتسمح بامتيازات غير مسبوقة لصالح العملة الأمريكية دون الخضوع للسياسات الاقتصادية المتعارف عليها دوليًا.
غير أن الخطوة الصينية- الروسية الأخيرة وما سبقها من خطوات مماثلة على صعيد فك الارتباط مع الدولار الأمريكي، تبشر كلها بتحول نحو نظام دولي أكثر استقرارا على المدى المنظور، شرط أن لا تدفع هذه المتغيرات الجانب الأمريكي إلى المزيد من التصعيد في إطار الحرب التجارية المشتعلة مع بيجين منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
ومما يدفع إلى التفاؤل أن جائحة كورونا الماثلة قد كشفت العجز الأمريكي فيما يتعلق بقيادة العالم في مقابل أن الصين أمكن لها ملء الفراغ بجدارة حتى الآن، الأمر الذي يشجع الكثير من الدول على اللحاق بركب القيادة الصينية، وتعزيز التحالفات الدولية الاقتصادية الناشئة مثل شنغهاي، والبريكس، وتوجيه الدول والمجتمعات النامية إلى حلول وبرامج اقتصادية خارج ” روشتات ” صندوق النقد الدولي، الذي يعد أهم أذرع الرأسمالية المتوحشة بشهادة خبراء الاقتصاد في الغرب نفسه.
ومما يؤسف له أن الدول العربية وكلها محسوبة على الاقتصادات النامية لم تنخرط بعد في أي من التكتلات الجديدة الفاعلة، برغم ما تعانيه حكوماتها ومجتمعاتها بسبب السياسات الغربية والأمريكية على نحو أخص، بل إن الدول الخليجية النفطية تشكل على الضد من إرادتها ومن مصلحة شعوبها جدار حماية للاقتصاد الأمريكي، الذي ما يزال المستفيد الأكبر من رساميل هذه الدول، ويراهن عليها في حربه التجارية مع الصين وروسيا وغيرهما، الأمر الذي يعني فيما يعنيه أن التراجع الأمريكي أمام الوثبة الصينية، سيعني خسارة كبرى للدول التي رهنت كل منها سيادتها واقتصادها للبيت الأبيض، ولم تستفد من الخيارات الدولية الأخرى المتاحة.