الشاعر محمد المنصور يستقبل الموت بصدر رحب وابتسامة عريضة، ويكتب معبراً عن ذلك -في كل مرة- بشعرية فريدة ومعنويات عالية وبكل ترحاب، مخالفاً بذلك قول شاعر عربي قديم:
لكلِّ جديدٍ لذةٌ غيرَ أنني
رأيت جديدَ الموت غيرَ لذيذِ
لكن المنصور يتعاطى الموت، يحسبه لذيذاً. منذ إصابته بسرطان الرئة وهو يرتل شعرية الموت بفلسفة خاشعة:
لم أعد أتحسس القصيدة
في الخيال
بل أمسك طرفها في الجرح
ولأنك يا صديقي قريب
تعرف تماماً
كيف نستعصي على اللحظة
وكيف نحب لموتنا
ما نحب لأنفسنا
لا نريد لموتنا أن يخجل أو يرتعد
نريده أن يكون أنيقا أيضاً!
ما هذا الترحيب والإجلال للموت؟! وكأنه ضيف عزيز يهل على محمد المنصور! ولشدة حرصه على ألا يزعج الموت، يخشى من أن يصدر منه ما يريبه. لذا يوصي صديقه، علي جاحز، بذلك، وأن ما سبق من الألم باعتبارنا قد تجاوزناه ليس إلا مواساة فرائحية قادمة من شخص يكاد يكون خبيراً بأسرار العالم العلوي إلى أيام قادمة ستكون ضيفا، هي تلك الكلمات التي لم تكن مؤلمة بالنسبة له، كما قد يعتقد البعض، وليقينه من أنها ليست إلا مقدمة للحظات لا متناهية من السعادة:
سوف نشاطر الآخرين الفرح
حين لا نكون هناك!
فلسفة اطمئنان
نحن شهداء في الحقيقة. وأنت تحاول أن تقتطع جملة شعرية لمعنى معين من نص المنصور، ستجد نفسك وأنت تمد يدك لاقتطافها، مضطرا لاقتطاف جملة شعرية قبلها أو بعدها، لأنها مرتبطة بها أو منفصلة عنها أو أجمل، منقوصة عنها أو بها أكمل. حين تقف تحت ظل قصيدة لمحمد المنصور، فكأنك تقف تحت شجرة تفاح ثمارها يانعة، قطوفها دانية، لا تعرف أي واحدة أشهى، من دقة الإتقان الجمالي الذي خلق بها عباراته الشعرية.
أحاول أن أقتطف جملة شعرية من قصيدة ما لمحمد المنصور، أنطلق منها لأكتب عن فلسفة الموت عنده، والتي تختلف عن فلسفات الموت عند البردوني أو المعري أو الشابي وغيرهم من فلاسفة الشعر؛ من حيث أنها فلسفة اطمئنان وبهجة وترحاب، وأنها عند غيره فلسفة أسى وشجن. فحين يقول الشابي:
جف ماء الحياة يا قلبي الباكي
فهيا نجرب الموت هيا
لا تلبث أن تستشعر أن كلمات الشابي مبعثها الحزن. وكذلك المعري الذي في نهاية المطاف يعتبر أن وجوده في الحياة جريمة كبرى اقترفها أبوه:
هذا جناه أبي عليّ
وما جنيت على أحد
فالموت عند المعري وأد سوأة. لقد رحل المعري إلى الموت مثقلا بالأحزان؛ بينما رحل المنصور تاركا سعادة، حاملا سعادة، مستقبلا سعادة:
سوف نمضي إلى النهاية
وبالتأكيد
لن ننسى أن نحب
وأن نصلي خلسة
سنفاجئ المساءات!
ظاهرها التعب وباطنها الراحة
وفي سياق القصيدة النثرية التي عنوانها «خروج منتصف اللحظة»، أهداها الشاعر المنصور لصديقه الشاعر علي جاحز، يشد من أزره ويزيح عنه غمامة الحزن الممطرة جراء إصابة زوجة جاحز بالسرطان؛ يقول المنصور بيقين وإيمان:
لن ننطفئ يا صديقي
سنموت
ولكن لن ننطفئ
سنحمل الهواء إلى أبعد مسافة
وسنبقى حتى يشتد عود النهار!
يا له من حكيم! إنه يهندس البسمة، بل ينبتها إنباتا، ويصمم الرضى في قلب الصديق تصميما.
وأنت تحاول اقتطاع معنى متدلٍّ ما من نص نثري يانع لمحمد المنصور، ستشعر بأنها تعلق في بنان وجدانك معاني مجاورة كقطرات العسل أو كحبات السكر.
كان ذلك النص الفلسفي، الذي يصف أبعاد الحزن كأنها دهاليز مضيئة إلى الجنة، مواساة لعلي جاحز عند اشتداد مرض زوجته. وهو إذ يفعل ذلك يقف كراهب لاهوتي عملاق يعرف أنها حالة خروج موقرة إلى مقام أسمى، ظاهرها التعب وباطنها الراحة:
ليس تعبنا مهماً على أية حال
سوف نمضي إلى النهاية!
النهاية التي هي بداية لحالة أفضل في فلسفة المنصور. لكنه في نص آخر بعنوان «دعنا نحزن عنك»، يطلع على أحزان صديقه علي جاحز وقد رحلت زوجته فيقول له: «دعنا نحزن عنك!».
في هذا النص سوف يحزن محمد المنصور عن علي جاحز. وفي الحقيقة إنه يحزن عن جميع الأصدقاء الذين هم في الأساس مجتمع كبير من الحزانى يتشاركه المنصور وجاحز.
هي اللحظة
إذن يا صديقي
عن أي لحظة يبتدر صديقه محمد المنصور؟ إنه يتحدث عن اللحظة التي أشرق بها على علي جاحز. وفي جاحز رمزية معينة لعالم مكتظ كبير، ليبدد حزنه في النص السابق محاولا إخراجه من حزنه، وها هو الآن وقد علمنا كيف نخرج من أحزاننا في منتصف اللحظة الأولى للحزن.
في هذا النص ينبري الشاعر المنصور كشمس طاردة للظلام يعلن عبارته الأولى:
هي اللحظة إذن يا صديقي
تنضج باتساع أحلامك
تلك التي منحتنا ظلاً وكلمات!
الموت كلحظة مخاض
إن الموت في فلسفة محمد المنصور لحظة؛ وإن الحزن في فلسفته أيضا لحظة عبور وينبغي الخروج من منتصفها، لا أن نغرق فيها. وإذن فلا شك أنها لحظة جهادية أليمة. هذه اللحظة كانت مخاضا لوصول، لحظة ستكون مخاضا لخروجِ أخرى؛ في حين أن لحظة الموت هي بدورها ستكون مخاضا للحظات مهاجرة ستصبح انتظارا آخر يليق بسحابة من وجهة نظر يراها هو.
الإمساك بتلابيب السعادة في كل لحظة
«دعنا نحزن عنك» خمسة مقاطع متوالية من الضوء، أو متوالية ضوئية ومنبثقة عن كلمات كليمة لم يعد يتحسسها محمد المنصور؛ إلا أنه يمسك أطرافها في الجرح وينشرها صوب أحزان علي جاحز التي يرسم لها المنصور مجالا لائقا للانتظار. لا تحزن! دعنا نحن نفعل ذلك! إن ابتسامتك تسبقنا دوما إلى اللحظة. أينما وجدت جملة يذكر بها المنصور اللحظة، فافهم أنه يقف داعيا إلى الإمساك بتلابيب السعادة في كل لحظة. إنه يدعو إلى الفرح وألا نحزن. وهو إذ يدعو إلى اللحظة السعيدة، يقف في منتصف لحظات الحزن كنبي في المحشر يشير إلى الضوء ويقول للعابرين في الحزن: من هنا انعطفوا إلى ثم، ثم طريق السلامة. ولسان حاله يقول: يا رب سلم سلم!
إنه يذكرني في هذه اللحظة بقول البردوني:
كان يبدو كصائم ما تعشى
الملايين فيه جوعى وعطشى
أثث القلب للعراة ويحكى
أنه ما أذاق جنبيه فرشا
أو قوله:
تمتصني أمواج هذا الليل في شرهٍ صَموت
وتعيد ما بدأت وتنوي أن تفوت ولا تفوت
فتثير أوجاعي وترغمني على وجع السكوت
وتقول لي: مت أيها الذاوي، فأنسى أن أموت
لكن في صدري دجى الموتى وأحزان البيوت
ونشيج أيتامٍ بلا مأوى، بلا ماء وقوت!
لقد لاح دجى الموتى وأحزان البيوت لدى البردوني، وكذلك الكآبة والأسى والاختناقات والزحام وكل الأشياء السوداء التي تنم عن تشاؤم فظيع؛ من حيث أنه جو النص، ومن حيث أنه نتيجته. التشاؤم المنبعث من أبيات البردوني هو ذاته التشاؤم الذي كان من أهم أجواء أو بواعث أدب أبي العلاء المعري وطه حسين، وهو في نظر بعض النقاد متلازمة معظم نتاج المبدعين في عدة مجالات. غير أنك حينما تقرأ أدب عباس محمود العقاد، ستجد أنه لم يكن متشائما، وكان ينظر في حياته الإبداعية إلى الأشياء نظرة تفاؤلية. فالتشاؤم عائق للرؤية. ومعروف عن العقاد أنه كان يتخذ تمثالا مجسما لطائر البومة على مكتبه، كاسرا بذلك ثقافة معشعشة في أدمغة المجتمعات من أن البومة نذير للشؤم.
لا مكان للتشاؤم
شاعرنا المنصور لم تتخذ ثقافة التشاؤم إلى فلسفته سبيلا.
كيف لا تتعب الكلمات
من نشيد الموت اليومي الممل؟!
كيف لا تمل آذاننا الكثيرة
من أنباء موت واحد يتكرر
نشاهده على مدار اللحظة؟!
لقد كسر الشاعر المنصور حاجز الرهبة من الموت. وفي كثير من نصوصه الشعرية ما يشير إلى أن الموت في فلسفة محمد المنصور شيء عادي، إلا أنه إن كان له نهاية بلحظة ما، واللحظة لديه ساعة ويوم وعام وقرن، فإنها بداية لحظة أخرى جديدة.
وفي نفس النص الذي رثى به صديقه إسماعيل الوريث يقول:
نحتفل بموتنا المؤجل
حينما نشيع آخرين!
فموت الآخرين هو موتنا، غير أنه بداية الكرنفال المتماوج في الطريق الذي يعبره جمهور الموتى المشيعين، ونحن إما في وسطه وإما في آخره.
صنوان لا نقيضان
«حيث تكون الحقيقة يكون الموت للأسف». هذه العبارة جزء من مرثاته للوريث؛ وإذن فحيث تكون الحقيقة يكون الموت. فالحقيقة هنا -كما يحكي محمد المنصور- رفيق الموت وقرينه، إن لم تكن من جنسه. الحقيقة والموت صنوان لا نقيضان.
وفي النص نفسه يحاكي الوريث وكأنه شاخص أمامه لم يمت، فيقول له:
كان الله يعرف أنك طيب
وأنك ستعود إليه في أي لحظة
أشعر بأن المسافات تقل
ونحن نشيخ في الانتظار!
إن الموت في عرف المنصور للطيبين، ولا مسافة تطول إليه.
الموت استشهادا أناقة وهيبة، يجب أن يأتي منسجما وموائما لسيرة صاحبها الأنيقة إذا جاز التعبير؛ وإلا فقد وصف الشاعر المنصور موت الشهيد محمد عبد الملك المتوكل بأنه موت يليق بحياته. ومعروف عن حياة محمد عبد الملك المتوكل أنها حياة نضال وإنسانية مبذولة في سبيل العدالة والحرية. وقد رثاه محمد المنصور بالقصيدة تحت هذا العنوان «موت يليق بك»، وقال:
وأنت أيها الدكتور المتوكل
المبتسم دائماً...!
وإذن فحياة الدكتور المتوكل كانت تتسم على الدوام بالابتسامة. ولهذا كانت الشهادة جزاء لها، لأن الشهادة في كل الأديان مُرحّب بها، لأنها اختيار السماء، حيث الابتسامات الأبدية تنتظر الطيبين.
* نقلا عن : مرفئ لا ميديا