بعد استشهاد ما لا يقل عن 30 شخصًا وإصابة 50 آخرين بجروح إثر انفجار عبوة ناسفة الإثنين في سوق بمدينة الصدر شرق بغداد، في هجوم ارهابي تبناه تنظيم "داعش"، ومع اتخاذ المسؤولين العراقيين و"كالعادة" جميع الإجراءات الروتينية - التقليدية، من فتح التحقيقات حول ملابسات التفجير، واسعاف المصابين وترميم الأماكن المتضررة والتعويض المادي على أهالي الشهداء، وإقالة أو معاقبة المسؤولين الأمنيين المباشرين عن منطقة الانفجار، يبقى المهم والأساسي والضروري وجوب التركيز والبحث عن السبب الرئيسي أو المسبب الرئيسي لهذه التفجيرات الارهابية وعن الأهداف الحقيقية التي تقف وراءها.
في الواقع، هذا الأسلوب من التفجيرات الارهابية التي تختار أماكن ذات طابع مذهبي محدد، بهدف التصويب على جهة معينة وزرع الشبهات في هذه الجهة، هو أسلوب قديم - جديد يعود إليه اليوم من يملك النية والإمكانية لتحريك وتوجيه واطلاق المجموعات الارهابية و"داعش" بالتحديد، في الساحة العراقية، وهو المستفيد الأساسي من تداعيات هذا الأسلوب.
دائمًا كانت نقطة الفتنة المذهبية تشكل نقطة ارتكاز الإستراتيجية الأميركية في العراق، وهي التي تعطي الإمكانية الأوسع لزرع الشقاق والعصبية والفتنة المذهبية، وتصيب مقتلًا من العراق، حيث طبيعته المتنوعة مذهبيًا والتي تتوزع تقريبًا بين اتجاهات ثلاثة: شيعية، سنية وكردية، طبيعة تغري أي طرف إقليمي أو دولي يحمل تجاه العراق النوايا السيئة، وتشكل له هدفا يعمل عليه. وقد تمّ بالأساس اختيار دولة العراق كهدف تنطلق منه قنبلة تفجير الشرق العربي والإسلامي. وبُنِيَ هذا الاختيار على كَوْن العراق في قلب الشرق الأوسط جغرافيًا واجتماعيًا، وفيه تعدّدية كاملة واسعة تمتدّ إلى أغلب الديانات والحضارات والثقافات الإسلامية والمسيحية، وفيه كربلاء ومرقد أهل البيت، وفيه أقدم الكنائس في العالم، وفيه ثروات هائلة من النفط والغاز والمياه.
وبعد اختيار الهدف (العراق) تمّ خلق الذريعة، ساق الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش وتيّاره اليميني المحافظ ادّعاءات كاذبة بامتلاك العراق لأسلحة التدمير الشّامل، (بيّنت التقارير الأميركيّة التي أصدرتها لِجان التحقيق لاحقاً أنّ العراق خالٍ تماماً من هذه الأسلحة) وجاء احتلال العراق، وما في ذلك من تدمير لمؤسّسات الدّولة، ومحو لهويّتها الوطنيّة، وتفكيك لطابعها المركزي عبر نشر ثقافة الفوضى والقتل والإقصاء وروح الكراهيّة والانتقام والثأر في نفسيّة المواطن العراقي، حيث تمّ العمل، ومن خلال التحريض المذهبي المسموم عبر وسائل إعلام مرتهَنة ومأجورة على خلق طفيليّات سياسيّة مذهبيّة أخذت على عاتقها مهمّة تدمير أبعاد التعايش بين مختلف مكوّنات العراق وتحطيمها.
استند الاحتلال الأميركي في العراق حينها، إلى الميليشيات وإلى الجماعات المتطرّفة، للقيام بالأعمال القذِرة في التطهير العرقي، وفي التهجير الديني والطائفي، وفي تفجير أماكن العِبادة والأعمال الإرهابيّة المُتبادَلة وفي عمليّات قتل العُلماء ورجال الدّين والشخصيّات الوطنية الدّاعية للوحدة ولنبذ الفتنة، ولم تكن "إسرائيل" بعيدة عن ذلك، فكان لها وجود مهمّ، وكل هذه النّتائج المُرعبة جاءت لمصلحتها.
اليوم وبعد تحرير العراق من الارهاب، وبعد أن تجاوز العراقيون مطب الفتنة وعاد التوازن التاريخي والطبيعي الى العلاقات بين المذاهب والثقافات العراقية، حيث نلمس الكثير من مظاهر الوحدة والتعايش وتجاوز المآسي السابقة رغم بعض الاستثناءات، تعود هذه الأساليب القديمة في التفجيرات ذات الطابع الفتنوي المذهبي الى الساحة العراقية.
أيضًا، كان لافتًا التصريح الأخير لرئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي الذي أكد فيه أن "بلاده ليست بحاجة إلى وجود القوات "القتالية" الأميركية، ولكنها بحاجة إلى مساعدة في المهام التدريبية والاستخباراتية، وأن زيارته لواشنطن والمقررة في 26 يوليو/تموز، ستكون بهدف البحث في إنهاء الوجود القتالي الأميركي لأن قواتنا أصبحت جاهزة".
واليوم، وبعد أن فرض التوافق الشعبي والنيابي العراقي موقف رفض الاحتلال الاميركي والمطالبة بالانسحاب الفوري للوحدات الأميركية، والتي تُعتبر في نظر هذه الأغلبية الشعبية والنيابية قوات احتلال ومسؤولة عن التحريض المذهبي والطائفي وعن محاولات اعادة اطلاق "داعش"، بدأ الأميركيون يبحثون عن أزمات وتوترات تضيّع الرأي العام العراقي، وتخفف تركيزه على الضغط لتنفيذ الانسحاب، من خلال إشغاله بتفجيرات دموية لها طابع مذهبي فتنوي.
الأهم أيضًا في مستجدات الوضع العراقي اليوم، هو فشل محاولات إعادة إطلاق التنظيم الإرهابي "داعش" بفعالية، رغم أن التنظيم يتحرك في أكثر من منطقة وعلى أكثر من مستوى، عملياتي أو عسكري أو ارهابي، ولكن، تبين أن تحركاته ما زالت تحت السيطرة، حيث التنسيق على أعلى مستوياته بين الجيش العراقي والأجهزة الأمنية والحشد الشعبي.
وبعد أن أثبت الحشد الشعبي دوره الأساسي في مواجهة محاولات إعادة اطلاق "داعش"، وبعد أن فشل الأميركيون مباشرة أو عبر جهات اقليمية معروفة تاريخيًا في استهداف الساحة العراقية مذهبيًا، في شيطنة الحشد أو انهاء دوره أو ازاحته من ساحة مواجهة "داعش"، اندفع الأميركيون باتجاه إحياء مناورتهم الخبيثة في التفجيرات ذات طابع الفتنوي والمذهبي، وجريمة التفجير الإرهابية الأخيرة في مدينة الصدر تدخل حتمًا في هذا الاطار.
فهل ينجح العراقيون هذه المرة في إجهاض محاولات الأميركيين من خلال إثبات أن الرد الحاسم على هذه الجرائم والمؤامرات هو بوحدة العراقيين وتكاتفهم وعملهم الدؤوب لملاحقة المجرمين والقضاء عليهم؟