ليست المرة الأولى التي تتمّ فيها مباحثات أأأو مفاوضات أميركية- عراقية في موضوع انسحاب الأميركيين من العراق، فلطالما اعتاد الرأي العام العراقي والإقليمي والدولي تلك المفاوضات التي كان ينتج منها تغيير في عناوين مهمة تلك الوحدات أو التعريفات المتعلقة بماهيتها أو باختصاصها أو الوحدة العسكرية التابعة لها فحسب. أما عملياً، فكانت النتيجة دائماً “لا شيء”. تبقى تلك الوحدات “وحدات احتلال”، وتبقى مسؤولة عن التوتر الأمني، وتبقى الراعية الأولى لحركة الإرهاب المنظّم والموجّه داخل العراق.
آخر هذه المفاوضات كان في اجتماع في البيت الأبيض، بحضور رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، إذ أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أنّ بلاده ستنهي بحلول نهاية العام “مهمتها القتالية” في العراق، لتباشر “مرحلة جديدة” من التعاون العسكري. وتابع الرئيس الأميركي موضحاً: “سيكون دورنا في العراق أن نكون هناك، وأن نواصل التدريب، وأن نعاون، وأن نساعد، وأن نتعامل مع داعش عندما تنهض، لكننا لن نكون، بحلول نهاية العام، في مهمة قتالية”.
انطلاقاً من نتائج هذا الاجتماع، وبإضافتها إلى تصريحات أميركية سابقة كانت قد أشارت إلى قرار بتغيير مهمة الوحدات الأميركية في العراق من “قتالية إلى تدريبية – استشارية”، وبالاستناد إلى تاريخ مناورة الأميركيين في العراق وحقيقتها، يمكن القول، وبكل موضوعية: لن يتغير أي شيء عملي في حقيقة مهمة الوحدات الأميركية ودورها في العراق، وذلك للأسباب التالية:
عندما نقول وحدات قتالية، فهذا يعني أنها تقوم بمهمة قتال، دفاع أو هجوم، ضد جيش أو مجموعات مسلحة. ومن المفترض أن تكون هذه المهمات القتالية لمصلحة الدولة العراقية، إذا سلّمنا جدلاً بأن الأميركيين يحترمون سيادة العراق ويقاتلون دعماً للدولة العراقية. وهنا نسأل التالي: من قاتلت الوحدات القتالية الأميركية دعماً للدولة العراقية على أرض العراق؟
في الحقيقة، لم تقاتل هذه الوحدات أية دولة أخرى أو جيش دولة أخرى، وهو أمر واضح. لقد قاتلت وحدات الجيش العراقي ووحدات الحشد الشعبي فقط – وما زالت – وذلك في الأوقات الحرجة بالنسبة إلى “داعش”، التي كانت مضغوطة في المواجهات مع تلك الوحدات العراقية. من جهة أخرى، وفي موضوع ادعاء الوحدات الأميركية أنها قاتلت “داعش” والإرهاب، فإنَّ هذا الأمر يعتريه الكثير من التناقض والخداع، إذ خُلق “داعش” ونما وتمدد برعاية أميركية، وبشهادة أكثر من مسؤول أميركي سابق اعترف بذلك بعد إحالته إلى التقاعد.
واليوم، يلمس الجميع لمس اليد كيف يتمدد “داعش” في العراق ويناور تبعاً لأجندة واشنطن، إذ تستغلّ حركته لمصلحة إبقاء مبرر لتغطية احتلالها العراق. وقد أشار أحد بنود المفاوضات الأخيرة في البيت الأبيض بوضوح إلى إبقاء ما يلزم لمحاربة “داعش”.
من جهة أخرى، عندما نقول وحدات تدريبية – استشارية، فهذا يعني وحدات عسكرية تملك كل الخبرات القتالية، أي أنها وحدات قتالية في الأساس، وتكلف بمهمة تدريب وتقديم استشارات. وهنا، نعود بالذاكرة إلى نموذج مماثل من تلك الوحدات الأميركية، والتي بقيت تدرب وتقدم استشارات للجيش العراقي ووحدات الأجهزة الأمنية بعد انسحابها في العام 2011، استناداً إلى اتفاقية أمنية رعت حينها ذلك الانسحاب – تماماً كما يحدث اليوم في نتيجة مفاوضات بايدن – الكاظمي الأخيرة.
ونعود أيضاً بالذاكرة إلى ما حصل بعد تلك التدريبات والاستشارات، وكيف أطلق “داعش” في العام 2013 – 2014 العنان لقدرات غير طبيعية، استطاعت، وبسحر ساحر، السيطرة على عدد كبير من الثكنات العسكرية العراقية، وعلى مساحات شاسعة، وعلى أكثر الأراضي حيوية وأهمية في العراق، والتي كانت بغالبها قريبة جداً من القواعد الأميركية (التدريبية – الاستشارية) أيضاً، وكل ذلك نتيجة الدعم التدريبي – الاستشاري الأميركي للوحدات العسكرية والأمنية العراقية.
أيضاً، وعطفاً على قرار الأميركيين بتغيير مهمة وحداتهم في العراق، وبسحب الوحدات القتالية، هناك عدة أسئلة تحتاج إلى أجوبة موضوعية: هل تدخل العمليات الجوية الأميركية – بالقاذفات أو الطائرات المسيرة – التي تستهدف بشكل متواصل مواقع وآليات الحشد الشعبي وفصائل المقاومة العراقية، في أماكن داخل العراق أو على الحدود مع سوريا قرب البوكمال والقائم، ضمن مهمات الوحدات القتالية الأميركية في العراق؟ وهل يمكن تكليف الوحدات التدريبة – الاستشارية الأميركية بمهمة استهدافها؟ ماذا يمكن وصف عمليات الاغتيال الجوية الأميركية التي استهدفت وسوف تستهدف حتماً قادة للمقاومة العراقية أو محور المقاومة، وعلى الأرض العراقية؟ هل ستكون عمليات قتالية أو عمليات تدريبة – استشارية؟ هل ستتوقف هذه الاغتيالات نهائياً استناداً إلى سحب الوحدات القتالية الأميركية من العراق؟ هل يمكن القول إن الأميركيين اتخذوا قراراً بوقف تلك الاستهدافات ضد الحشد الشعبي وفصائل المقاومة العراقية؟
وفي حال كان العكس (أي مثابرتهم على استهداف المقاومة العراقية)، هل يستعينون بوحدات جوية من خارج العراق، في الإمارات أو الأردن أو قطر أو السعودية؟ وهل يكونون بذلك قد التزموا بسحب وحداتهم القتالية من العراق، إنما ولأسباب عسكرية – استراتيجية اضطروا إلى التدخل فيه من خارجه؟
عملياً، وأمام هذه التساؤلات المشروعة، لا يمكن تصور أي مستقبل للوحدات الأميركية في العراق، وتحت أي مسمى، إلا بوجوب التطرق إليها، وبشكل تفصيلي، إنما في الواقع، قد يكون من شبه المؤكد أن هذه الاسئلة لم تُطرح، لا من قريب ولا من بعيد، بين الوفد العراقي والأميركيين خلال زيارة الكاظمي الأخيرة إلى واشنطن، وربما كان كافياً للوفد العراقي ما قاله الأميركيون عن مفهوم ودور كل من الوحدات القتالية أو الوحدات الاستشارية، لكي يرتاحوا ويثقوا بنجاح مفاوضاتهم لما فيه سيادة العراق وأمنه وسلامه.
من هنا، واستناداً إلى تاريخ السياسة والاستراتيجية والمناورة الأميركية ومسارها، في العراق وأفغانستان ولبنان وفيتنام، وفي أية دولة أنزلوا على أرضها وحدات عسكرية، لا يمكن تصديق كل ما يقوله هؤلاء، ولا يمكن أيضاً تصديق ولو جزء يسير من كلامهم.
* المصدر : الميادين نت