بعد أطول حرب تخوضُها الولاياتُ المتحدة بذريعةِ محاربة القاعدة والقضاء على طالبان، خرج الرئيسُ الأمريكي جو بايدن ليعترفَ، بعد فوات الأوان سواءً لواشنطن أَو لكابول على حَــدٍّ سواء، اعترافُ بايدن بأنه ليس بإمْكَان أية قوات عسكرية أن تفرض مسارَ الأحداث في أفغانستان، ووصفها بأنها مقبرة الغزاة، هو يقرُّ بهزيمة جيشه هناك، وبطبيعة الغزو الأمريكي للبلاد، وأنه لم يكن بأيِّ قدر حرباً ضد القاعدة، ولا للقضاء على طالبان، ولم يكن لمنع الهجمات على الأراضي الأمريكية.
الاعتراف الأمريكي يأتي في ظل مشاهد الخروج المذل للولايات المتحدة الأمريكية وعملائها من أفغانستان بعد عشرين عاماً من الاحتلال، تجر وراءها أذيالَ الهزيمة والأحلام المتبخرة والآمال الخائبة ومعها سراب الديمقراطية الموهومة.
لم تحصد أمريكا أكثر من الفشل والخزي في أفغانستان والذي سيجر تبعات خطيرة؛ لأَنَّه ببساطة كما قال توم توجندهات، رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس العموم البريطاني، الذي عمل سابقًا كمستشار لحلف شمال الأطلسي في أفغانستان: إن “فشل الولايات المتحدة في الحفاظ على مسارها في تلك البلاد تسبب في تقويض مصداقية القوة الأمريكية وستكون له تداعيات على بعد آلاف الأميال”.
وقد رأينا كيف تشكلت القناعات لدى بعض من أتباع الولايات المتحدة وهم يتحدثون عن أن الاستقواء بالخارج والاعتماد على الغزاة، لا يجلب إلَّا الشر، واضعين أمام أعينهم طائراتِ الجيش الأمريكي، وهي تسحقُ الآلافَ من العملاء في مطار كابول، لتنقل أجزاءً من أشلاء بشرية إلى دول أُخرى على عجلاتها، كما أكّـدت ذلك صحيفة أمريكية.
عشرون عاماً من الاحتلال الأمريكي والحروب التي رزح تحتها الشعب الأفغاني لم تسفر عن أي نوع من الاستقرار الأمني ولا الرفاه الاقتصادي الموعود، في حين أسفرت عن بلد يصدّر ما يقاربُ ثلثَ اللاجئين في العالم بأكثرَ من أربعة ملايين لاجئ أغلبُهم في دول الجوار باكستان وإيران، حسب أدنى الأرقام المعلنة للمفوضية السامية للاجئين التابعة للأمم المتحدة.
بالإضافة إلى أعداد هائلة من الخسائر البشرية في صفوف الأفغان تصل مئات الآلاف، ناهيك عن الوفيات غير المباشرة الناجمة عن الجوع والمرض ونقص المياه، وأكثر من ذلك الناجمة عن الأضرار التي لحقت بها خلال الحرب.
مئاتُ المليارات من الدولارات التي تدّعي واشنطن أنها أنفقتها في هذا البلد تعكس حجم الهزيمة التي منيت بها، في حين لا يمكن أن تكون تلك المليارات لصالح الشعب الأفغاني ولا قواته العسكرية والأمنية التي تبخرت مع أول اختبار أمام طالبان مع الانسحاب الأمريكي.
يقول بايدن إن بلاده أنفقت أكثر من ترليون دولار، وهو رقم هائل كان بإمْكَانها بناء بلد كامل من الصفر، فكيف لم يتمكّن من بناء جيش، ولا قوات أمنية تحمي الحكومة، لو لم تكن تلك الأموال صرفت في نفقات وصفقات فساد مشبوهة لصالح جنرالات الحرب في البنتاغون ومسؤولي الخارجية الأمريكية والوكالة الأمريكية للتنمية.
على أن تلك الأموال التي تنفقُها واشنطن على الجيش والقوى الأمنية الأفغانية لم تكن إلا بالقدر الذي يجعل عناصرها مُجَـرّد مرتزِقة أَو أُجَرَاء عند الضباط الأمريكيين، فتحول قادة الجيش إلى عصابات من الفساد، فيما كان الجنود الأفغان يعيشون أوضاعاً مُزرية، وكل ما يفكرون به هو الراتب الذي ينتظرونه آخرَ كُـلّ شهر.
أما الاقتصاد والأحلام التي رسمتها أمريكا للشعب الأفغاني، من جلب الرفاهية وإقامة الديمقراطية وترسيخ الحرية، فتكذبها الحكومة والمسؤولون الموالون لواشنطن والغارقون في الفساد والأرقام الهائلة عن الفقر والبطالة لتزيد أمريكا الطين بلة وتترك البلد على فوهة بُركان الحرب الأهلية التي تهدّد بتقسيمها وشرذمة شعبها.
الفساد الذي مثّل أبرز إنتاجات الاحتلال الأمريكي الداعم للشخصيات والقيادات الفاسدة، جعل من أفغانستان واحدة من أبرز الدول بترتيب رقم 165 من أصل 180 دولة.
في جلسة مجلس الأمن الطارئة بخصوص التطورات في أفغانستان، فَـإنَّ المجتمعين الذين كان همهم الرئيسي هو التغطية على الهزيمة الأمريكية المذلة والفشل الأمريكي الذريع، لم يتبادر إلى أذهانهم أي حديث عن ما حل بالشعب الأفغاني، ومن يتحمل النتائج الكارثية التي تثقل كاهله، ولا ما مصير حقوق الضحايا بمئات الآلاف، من القتلى والجرحى، ناهيك عن الدمار الذي خلفه الغزو الأمريكي.
وما يثير الاشمئزاز أكثر، هو تصريحاتُ المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن، وخشيتها على الشعب الأفغاني من تفشي كورونا، متناسيةً ما ألحقته قواتُ بلادها من قتل ودمار وجراح ودماء.
بعد كُـلّ هذا الدمار والمآسي تبقى الحقيقةُ واحدةً، المحتلّ إلى زوال، والشعوب ستتحرّر، وكما قال الرئيس الأمريكي بايدن، ليس بإمْكَان الجيوش أن تفرِضَ مسارَ أي شعب، وهذا هو الدرسُ الذي يجبُ أن تتعلمَه أمريكا، وحلفاءُ أمريكا في المنطقة والعالم.