هذه المرحلة التي يواجه فيها البلد العدوان أفرزت شعراء وشاعرات يكتبون القصيدة الشعبية العامية بغزارة وجمال لافت، ومنهم الشاعرة وفية العمري، التي تكتب القصيدة الثورية والمناهضة للعدوان ببساطة وصدق متناهيين. وهي الشاعرة الأجمل أداء وإلقاء، وتفوق كثيرا من الشاعرات. ولها قصائد منشورة تتسم بالحركية والتحفيز، وحماسية نابضة فيها من الفخر والاعتزاز بكونها تنتمي لوطن قوي تستمد منه القوة والإباء، وينعكس ذلك الشموخ والاعتزاز في نصوصها التي تبث الرعب في صفوف العدوان من خلال قصائدها التي تمتزج فيها مشاعر الانتماء بانفعالات القوة، وزنجبيل الكرامة بعبق التاريخ، وفيها رسائل قوية محفزة لرجال الميادين، وتقلق الأعداء بجزالة الكلمات وقوة النظم.
لقد شهدت الساحة الثقافية اليمنية في العشر السنوات الأخيرة، طفرة نوعية في الشعر الشعبي العامي على وجه الخصوص، وظهر جيل إبداعي غاضب، يمخرون عباب الأدب بحيزوم القصيدة العمودية بكل ثقة واقتدار، واحتلت قصائدهم الحربية مكانة بارزة على منصة الأدب العربي المقاوم لكل أشكال الغزو والاحتلال الغربي المتغطرس والثقافة الصحراوية الضحلة..
الشاعرة وفية العمري تقف وسط هذا الزخم الشعري بثقة، وتلقي قصائدها بتميز. قرأت لها باقة رائعة من النصوص منها: ''سجادة العشق''، ''شواقيص الحسد''، ''ذروة المناسك''، ''يا الساحل اتنشنش''، ''سلم الإباء''، ''وحدتي''، ''حديث الروح''، ''أنا اليماني''، ''يد أمريكا''... وكلها عناوين قوية تدل على أنها شاعرة مميزة ولها بصمة جميلة في المشهد الثقافي المناهض للعدوان، وهناك شاعرات مبدعات أيضا سأحاول تناول أدبهن في قادم الأيام.
تتناول وفية العمري في قصائدها قضايا ثورية وإنسانية، وتحاول برغم حشدها الكثير من المفردات الجزلة والصور الصاخبة ألا تتكلف ولا تدعي ما لا تلامسه، وتستخدم الأدوات المنسجمة مع قدرتها الثقافية والحسية..
وهناك شعراء وشاعرات تقمصوا دور المحارب في جبهات القتال، واستحضروا مفردات لا يعرفونها أساسا، كأسماء بعض الأسلحة التي لا يعرفها المقاتلون في الميادين، وهذا غير منطقي، ومفسد للشعر وضحك على العوام، وليس فيه صدق ملموس محسوس.
أضف إلى ذالك استحضار البعض في قصائدهم أدوات لم تعد صالحة في واقعنا، كالسيف والرمح والخيل، والحديث حول هذا التداعي الشعري الفاسد يطول.
ذروة المناسك
إن أغلب العناوين الشعرية عادة ما توحي بالخبايا التي يحتفظ بها الشاعر في نفسه أو يختزنها في صدره، لكنا أيضا نعتبرها وجه النص الشعري. وطالما لمسنا إيحاءات وأحيانا توضيحات شكلت الأبعاد الجمالية والفنية في تجربة المبدعة وفية العمري. ولفتتنا منها المناحى الوطنية والربانية. وهناك أبعاد أخرى شكلت الصورة المميزة والمعروفة للشاعرة. وقد لا ننطلق من أي منها بشكل خاص، لكنا رأينا العنوان مدخلا لهذه المقدمة، ورأيناها انعكاسا من نور أو نفحة من عطر القصيدة التي هي ذروة المناسك.
إن اقتران حرفي الكاف والحاء كقافيتين لقصيدة واحدة، الكاف لصدر البيت، والحاء لعجزه، منحا القصيدة من طاقاتهما ما سنراه في "ذروة المناسك". فمن خصائص الكاف القوة، كما أن للحاء خصائص منها الحركية. لهذا جاء مع الكاف حد السيف، ومع الحاء البعد الروحاني:
"على حد سيف العز صلت مداركي
وسبح شذى الإيمان في كل جارحة
ومن شاهقات الهَدي طل الملائكي
نسائم على الأرواح تسري نصايحه".
شاهقات الهدي، إطلالة ملائكية، نسائم روحية، سريان نصائح، علاقات مادية إلى معنوية، ومزيج من الظواهر والبواطن، أضفى على النص خلفية زرقاء متدرجة من الغامض والفاتح كطقس لأجزاء من البحر والسماء. يا لها رتيقة واقع في خيال!
لوفية ثروة خيالية قريبة من صندوق الأبجدية، وفي يدها كعصا البرق في ركام السحب. ولهذا تمطر شعرا أنى شاءت. وفي قصيدتها "ذروة المناسك" نرى قلبا وطنيا وناصية سجادة وشعرا في الحق ناسك، ألف الطواف على كعبة الصمود، فمخض المعنى وتوشح الحرف وعرج البيان.
"ويا سلسبيل العزم ما انا بتاركي
هوية يمن في الله ذابت جوارحه".
وكما أن للمناسك ذروة، فإن تلك الذروة بلا شك هي ثمرة النسك كلها؛ إنها الهوية الإيمانية، وهي أيضاُ، ومن حيث هي ذروة، منطلق العزة والكرامة والقوة والتاريخ والمجد والشرف، كما تحكي بقية الأبيات:
"هوية يمن ميمون مؤمن تماسُكي
وحكمة يمانية جلية وواضحة
هوية بها الإيمان ذروة مناسكي
وقوة عزيمة بأس وانفس مسامحة
هوية "أولو بأسِ" على الباس متكي
وتاريخ ينضح مجد جلت موانحه
هوية بحبل الله ربي ومالكي
وثيقة عن النهج الإلهي منافحة
هوية قد اتجلت في اقوى معاركي
مسيرة شرف واخلاق عُظمى ورابحة".
سجادة العشق
سجادة العشق لا تشير إلى شيء سوى الصلاة، وأنه عشق مقدس قد تطهر وأقام الصلاة. كيف لا وشاعرته كتبت الشعر، تكتبه كصائغ الذهب مرصعا بأنفس الكلمات والمشاعر، وإذا أنشدته تنشده كابتهالات صوفي خاشع في المحراب، لا يكف عن رفع أكف القلب بأطياف الرجاء؟! أنت في حضرة شاعرة شيدت من سبحات الروح معبد الابتهال، فانثال من عبق كلماتها عطر الجمال.
شاعرة كلها قلب وشعرها كله خفقان. وبرغم ذلك يرتعب شر العدوان وفلوله من كثر ذوبانها في عشق الوطن. وتأمل قصيدة العشق، تأملها بعيني إنسان، ستجد الكم الهائل من الخفقات الدافئة توشح جسد الوطن البارد، وستستغرب وأنت في مستهل عتباتها وكيف يتصدع مرفأ الصمت الذي تقف عليه بقلبك قبل أذنيك. شاعرة تقطف ورود روحها هبة لحياة أرض أحبتها بحجم السماء، وتجري أنهار عروقها سقيا لشعب تجرعت من أجله عطش العناء. وأكثر من غيرها من الشعراء، قالت كل هذا البهاء:
"دُق قلبي يا وطن فالباب لك مفتوح واصل
والرئة مسرح عليها الروح غنت والمسام
والشرايين اصبحت في خافقي زهر ومشاتل
ترتوي من نهر عشقك ذي جرى بين العظام
قد سكبتك عطر في دمي، فؤادي، والمفاصل
والكبد لك قصر شامخ، والحشا لاجلك غمام
والهوى الميمون ذي خيم بقلبي لك قوافل
صافح اغصان التفاني واحتضن جذع الغرام
أعشقك يا نبض نبضي، يا تسابيح الجدايل
واعصر اوجاعي واغسل بالهوى وجه الظلام
فاليمن سجادة العشق المطرز بالنوافل
واليمن قاموس بالعزة المضية مُستهام
واليمن مهد الحضارات الأواخر والأوايل
مجدها بوابة التاريخ واجفان السلام
واليمن عُقد الصبايا ذي تجلت سم قاتل
للعدو الباغي واصحاب المطامع واللئام
مجدنا باروت فزت من ثناياه النواصل
جرعت كل الطواغيت المنية والحِمام
زلزلت حلف المماسيخ الوضيعين الأراذل
واسرجت فوق الثريا وامتطت سرب الحَمام
من دم الأطفال واشلاء الصبايا والأرامل
وانتفاضة أم تنشد قلبها بين الركام
من تناهيد الأماني النازفة نبض السنابل
من تراتيل المآذن وابتهالات الإمام
سبحي خشم البنادق وارعدي هام الجرامل
في مشوش اعداء دين الله حيليهم حُطام
إرعدي، شقي، وقي، واحرقيهم حرق كامل
وانسفي الأبراج يا شُم الشماريخ الجسام
يا سيوف الحق في الهيجا براكين وزلازل
في رحاب الله تمضي قنص، تصنيع، اقتحام
هب ريحان الكرامة في مسامات المقاتل
واطلق الآلام من قلب اليماني كالسهام
عزنا بالله قاهر كل أحقاد البواطل
نستمد العون منه لو علينا الكون حام
ذي مسخ فرعون خلى حلف واشنطن جنادل
بين أنياب الأسود السمر عاما بعد عام ".