المعرفة بموازاة للنص .. قراءة في مطلع قصيدة «البُردةُ» لحسن المرتضى
حينما تقرأ قصيدة لشاعر مثقف فإن من الضروري أن تجعل في اعتبارك ثقافة الشاعر كبوابة مهمة لقراءة القصيدة. وعلى اعتبار أنك تعرف ثقافته من طريق آخر غير قصائده أو أنك استشففت ذلك من واقع قراءتك للقصائد، ستقرؤها بأثر رجعي كلما أعدتها، إذن فأنت مضطر للدخول إلى النص من هذه البوابة المهمة، وإلا فلا مجال لتجليات أجمل. حين تقرأ للشاعر حسن المرتضى، ذلك المثقف العارف الموسوعي، فستدرك من خلال خلفيته المعرفية تلك كم نافذة ستطل منها على النص.
لكن ماذا لو لم تكن تعرف عن الشاعر شيئا غير اسمه وهذه القصيدة في مدح النبي، وعنوانها "البردة اليمانية الثالثة"؟! كيف ستقرأها؟! لو قرأت النص بمنأى عن الخلفية الثقافية ستضطر لتجاوز الأبيات الثلاثة الأولى، وقد تمر على مواضع كثيرة غيرها مرورا عادياً، لاحتياجك لحزمة كبيرة من الضوء لفهم أبعاد فلسفية وثقافية متعلقة بها، وقد تصدر حكما أن البيت الرابع هو المطلع، معتبرا الثلاثة الأبيات الأولى تمهيدا أو خربشات.
البيت الرابع فعلا يصلح كمطلع رائع:
من أين أسري بشعري؟! أي راحلة
تقلني كي تناجي روح مولاها؟!
لكنك ستضيع فرصة الاستفادة من العمق والبعد الفلسفي للمطلع الحقيقي:
أستغفرُ القلبَ إنْ لم يمْتدِحْ "طه"
نبْضي وإن لم يذُبْ في العشقِ أواها
أستغفرُ الرّوحَ إنْ لم تعتنقْ وطناً
آمالُها فيه إنْ حارتْ بمأواها
أستغفرُ الشعرَ إن لم أفترشْ مُقَلَ الــ
أبياتِ في بابهِ كي تبصرَ اللهَ.
ولأن المساحة ضيقة، سنستعرض فقط قراءة للثلاثة الأبيات ونعرض عن بقية القصيدة، لنتناول في هذا المقال تحليلا استبطانيا للمطلع، لكنا سننشر نص المديح كاملا في النهاية.
عنوان القصيدة "البردة اليمانية الثالثة"، ويدل على أن ثمة ثلاث بردات شعرية يمانية كتبها الشاعر حسن المرتضى في مديح النبي، وتدل أيضاً على أن لديه بردة يمانية رابعة وخامسة قادمة.
وفي منطق القصيدة ثمة أبعاد للاستغفار سنحاول التوصل إليها، وسندرك وجود منظومة مقامات وجدانية وعرفانية، في كل بيت منها مقام: مقام القلب في قوله: "أستغفرُ القلبَ إنْ لم يمْتدِحْ طه"، ومقام الروح في قوله: "أستغفرُ الرّوحَ إنْ لم تعتنقْ وطناً"، ومقام الشعر في قوله: "أستغفرُ الشعرَ إن لم أفترشْ مُقَلَ"، وهذا أعلى مقام في منطق المطلع، لأنه مقام المناجاة والخطاب والكلام المباشر مع الممدوح، وفيه يفترش القلب والعقل سجادة التوله والعشق، حيث يقف عند هامة سدرة المشاعر ليسفح دموع المقل بالبكاء كأزكى قربان لديه لأعلى غاية هي إبصار الله. وهنا يتجلى استغفار القلب والروح والشعر كوسائل لتحقيق غايات أسماها إبصار الله، إذ هي وسائط نورانية منعكسة من وجه الحبيب محمد صلوات الله عليه وآله، وكيف لا وهو رسول الرحمة وكل القيم النبيلة؟! ومن ثم مؤدية إلى وجوه ووجهات عالية يجب أن يصل إليها على نحو من التهذيب واحترام الذات.
"أستغفرُ القلبَ إنْ لم يمْتدِحْ طه
نبْضي وإن لم يذُبْ في العشقِ أواها".
وفي حين أن هناك مقامات يعرج من خلالها الشاعر لغاية عليا، نجد أن داخل كل مقام مقاما للوصول إليه.. ولكي يعرج إلى بهو مقام القلب من أعماق مقام القلب ذاته، عليه أن يسرج نبضاته كأنها نيوترون ذرة. وقبل أن يصل إلى ذروة المقام ثمة مرحلة تالية لطور مديح النبض هي مرحلة الذوبان في العشق. الترتيب والتنسيق العجيب والدقيق داخل منظومة المطلع لم يأت عبثا، لأن لها منطقاً في الوعي الشعري لدى المؤلف هو منطق المصفوفات الوجودية اللاعبثية، كحقيقة لمعنى الوجود منزلة من الحق كوحي متلقى في العقل الشعري، وإلى هناك تنبثق الكلمة في مدارات أنوار معراج ثان.
"أستغفرُ الرّوحَ إنْ لم تعتنقْ وطناً
آمالُها فيه إنْ حارتْ بمأواها"
الآن يبدأ مقام المعراج الثاني، ومثلما كان نبض القلب مصعد العشق، ومصعد العشق مصعد المديح، فإن المديح براق الروح لاعتناق وطن هو المأوى الحقيقي للروح.
"أستغفرُ الشعرَ إن لم أفترشْ مُقَلَ الــ
أبياتِ في بابهِ كي تبصرَ اللهَ".
على أن مقام الشعر فيه مقامات واجتياز مراحل كلها تقع ضمن منظومة نورانية عليا أهم عتباتها افتراش المقل كسجادة لصلاة الشعر ينال الشاعر على إثرها مرتبة محمودة ولعلها نبوة الشعر، على أن الاستغفار في كل المعارج بمثابة البلازما في الدم.
لكن لماذا لا يتم الاستغفار للغاية العليا مباشرة بدلاً من غفران القلب والروح والشعر ودون الحاجة لتلك المعراجات؟! ألا يمكن أن يفسر ذلك بضعف الرابط المباشر مع الله؟! ولكن هذا التفسير يسقط حين نعرف أن ثمة خطوات يعتقد الشاعر بوجــــــوب الامتثال لها كحيثيات لا تتحقق المعرفة على الوجه الصحيح إلا بها. إنها باختصار أصول المعرفة من وجهة نظر خاصة به كعالم راسخ في تأويل متشابه المقدس، القلب كقرينة للحب والروح كقرينة للمعرفة والشعر كقرينة للصلة.
البُردةُ اليمانيةُ الثالثة
أستغفرُ القلبَ إنْ لم يمْتدِحْ "طَه"
نبْضي وإنْ لم يذُبْ في العشقِ أوّاها
أستغفرُ الرّوحَ إنْ لم تعتنقْ وطناً
آمالُها فيه إنْ حارتْ بمأواها
أستغفرُ الشّعرَ إن لم أفترشْ مُقَلَ الــ
أبياتِ في بابهِ كي تبصرَ اللهَ
من أين أسريْ بشعري؟! أيُّ راحلةٍ
تُقلّني كي تناجيَ روحَ موْلاها؟!
مولايَ لا زادَ إلاّ الحبَّ يحمِلُني
إذْ قلتُ "طه" ارتقتْ روحي أتلقاها
"طه" ومازِلتُ في التّردِيدِ يسبِقُنِي
قلبي وأنفاسُ روحي تنفثُ الآها
أشكو إلى سيّدي من أمّة حشَدَتْ
ضدّ اليمانينَ باسْمِ اللهِ أطْغاها
كأنّما كرّرَ التاريخُ "أرطأةً"
أو "ملجمَ" العصرِ بن "سلمان" أشْقاها
بكَ انتصرنا على قابيلِ عاصفةٍ
إلهها النفطُ والدولارُ أغْواها
بكَ انتصرنا عليهم إذْ بنا وَثَبَتْ
أمجادُ أنصاركَ الأخيارِ يا "طه"
فأنتَ بوّابةُ الرحمنِ تحملُنا
للهِ إذْ تكتسي الأرواح ُ تقْواها
هذا أنا -سيّدي- بالبابِ منتظرٌ
معي حروفي، ربيعُ الطّهرِ ناداها
كي أسكبَ الروحَ نبضاً في القصيدِ جرى
بماء قلبي وإنْ الحبَ أجراها
هذا أنا -سيّدي- لا بوصلاتَ معي
سواكَ أنتَ ربيعيْ، خُذْ بمَنْ تاها
تخضرُّ روحي كما اخْضَرَّ الزّمانُ فَكَمْ
في يومِ ميلادكَ انْجابَتْ خطاياها
هذا أنا، كيف شوقُ الأنبياءِ إلى
رؤياكَ والآيُ تتلو عنكَ بُشراها؟!
أكنتَ ما بينَ أسْماءٍ يعلّمُها
لآدمٍ ربُنا، أمْ كنتَ أسماها؟!
أيوسفٌ في منامٍ قد رآكَ ولمْ
يقْصُصْ علينا رؤى إذْ أنتَ معناها
أهدهدٌ جاءَ بالأخبارِ من سبأٍ
قُلْ يا سليمانُ، ماذا كانَ فحْواها؟
أقالَ عن معشْرِ الأنصارِ: إنهمُ
أخوالُ "طه" لهم ربّي اصْطفى الجاها؟!
"طه" وما زالَ عيسى عنكَ يخبرُنا
حتى أتانا ربيعٌ والرّدى شَاهَا
ليعشبَ الكحلُ في أحداقِ أزمنةٍ
ترمّدتْ، أنتَ من أحيا مُحيّاهَا
كأنما ريحُ عامِ الفيلِ ما عصَفَتْ
ولا "سُعودٌ" فإنّ اللهَ أخزاهَا
بقيتَ حيّاً وما أبقى لهم أثراً
عصْفُ الأبابيلِ والأنْصارِ يا "طه"
أنتَ الربيعُ الذي في ذاتهِ اختُصِرَتْ
محاسنُ الكونِ، فيها كنتَ مولاها
عليكَ صلّتْ رياحينُ الفؤادِ ومِنْ
أريجِ نبضي بها قد صِرتُ أوّاها
عليكَ يمتدُّ نبضي بالصلاةِ إلى
قلوبِ كلّ الورى إذْ صارَ أفواها
عليكَ يا سيدي والآل قافيتي
صلّتْ، وتدري بقلبي كيفَ صلاّها!
* نقلا عن : لا ميديا