نستطيع القول إنّ إيران لا تأخذ التهديدات «الإسرائيلية» على محمل الجد، حيث العجز المطلق للكيان عن إتيان أيّ عملٍ من شأنه وضع إيران في زاوية الرد المباشر، فحينها تصبح حياة الكيان ومصيره في ذروة الخطر الوجودي، لذا يمكن تشبيه التهديدات «الإسرائيلية» بفاكهة فيينا، حيث الجدية المفرطة حد التشنج لدى بعض الوفود، والأهمية القصوى لما ستتمخض عنه المفاوضات، تأتي تلك التهديدات باعتبارها استراحة لتصفية أذهان المفاوضين عبر إلقاء الدعابات.
في الوقت الذي تعبر فيه طائرة رئيس وزراء العدو، نفتالي بينيت، الأجواء السعودية، في طريقها إلى دولة الإمارات، تدور معركة عض أصابع في فيينا، ليس لها من هدفٍ نهائي، سوى أن تعبر الطائرات «الإسرائيلية» الأجواء الإيرانية، بسلاسة عبورها الأجواء السعودية، وأن تصبح المنطقة جميعاً بشعوبها وثرواتها وأنظمتها، عوامل إسناد لتأبيد وجود الكيان المتهالك.
والإمارات والسعودية جزء من هذه المعركة، باعتبارهما أدوات ترغيب تدفعهما الولايات المتحدة نحو إيران، في مقابل «إسرائيل» والعقوبات كأداتي ترهيب، والحقيقة أنّها جميعاً أدواتٌ فاشلة، وليس بإمكانها صناعة فارق يُذكر في الموقف الإيراني، حيث إنّ الليونة السياسية والبراغماتية الإيرانية لا تعني تقديم التنازلات عن الثوابت، بل الآتي في إطار محاولات تحييد هذه الأوراق، على قاعدة حُسن الجوار.
هذا بالنسبة لأوراق الترغيب. أمّا أدوات الترهيب، وهي العقوبات والتهديدات «الإسرائيلية»، فلها حكاية أخرى. نستطيع القول إنّ إيران اعتادت التعايش مع العقوبات، بل وتجاوزتها في كثير من الأحيان. أمّا التهديدات «الإسرائيلية» فلا تأخذها إيران على محمل الجد، حيث العجز المطلق للكيان عن إتيان أيّ عملٍ من شأنه وضع إيران في زاوية الرد المباشر، فحينها تصبح حياة الكيان ومصيره في ذروة الخطر الوجودي، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار الوضع الحالي للقوة الأمريكية. هذه القوة ما زالت أكبر قوة عسكرية في العالم، بل وفي التاريخ، إلّا أنّ الأزمة تكمن في فقدانها الفعالية، وقد ثبت ذلك في عدة مواجهات، لذلك فإنّ الولايات المتحدة الأمريكية تتجنب خوض معارك مباشرة، وهي تعتمد على هيبة القوة لا فاعليتها، ودخول أيّ مواجهةٍ مباشرة سيفقدها الهيبة، وهذا من شأنّه أنّ يجردها من أحد أبرز أوجه قوتها العظمى، وهذا ما يفسر دفعها بالأدوات إلى أتون الحروب، كما حدث مع جورجيا سابقاً، ويحدث مع أوكرانيا حالياً، وكذلك في تايوان وهونغ كونغ، أو كما حدث مع السعودية في اليمن، أو «داعش» في سورية.
لكن الفرق بين كل تلك الساحات و»إسرائيل»، أنّها ليست مضطرة للتدخل العسكري المباشر، ما سيجعلها أمام خطر الهزيمة وفقدان الهيبة، أحد أعمدة وجودها كقوة عظمى، بينما الخطر الوجودي على «إسرائيل» سيضطرها للدخول العسكري المباشر، وهذه مجازفة ليست مستعدة لخوضها، في ظل موازين قوى عالمية وإقليمية مختلة في غير صالحها.
لذا يمكن تشبيه التهديدات «الإسرائيلية» بفاكهة فيينا، حيث الجدية المفرطة حد التشنج لدى بعض الوفود، والأهمية القصوى لما ستتمخض عنه المفاوضات، تأتي تلك التهديدات باعتبارها استراحة لتصفية أذهان المفاوضين عبر إلقاء الدعابات.
منذ ما قبل توقيع الاتفاق النووي عام 2015، أوقفت إيران عمليات التخصيب، كبادرة حسن نية للبدء بعملية التفاوض، واستمر هذا التوقف بالتخصيب عند نسبة ثلاثة ونصف بالمئة، حتى انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق عام 2018، ومنذ ذلك الحين تسارعت وتيرة التخصيب في إيران بالتدريج لتصل إلى 60 ٪ وهي تُعتبر حالياً حسب الغرب، دولة العتبة النووية. إذا كان الانسحاب الأمريكي سابقا من الاتفاق عملاً تكتيكياً، فإنّ مسارعة إيران لرفع نسب التخصيب عمل استراتيجي يثبت حماقة قرار الانسحاب تحت ضغوط «إسرائيلية»، والآن تسعى أمريكا لتكرار الحماقة ذاتها، من خلال محاولات منع التوصل لاتفاق.
العودة الأمريكية الغربية للاتفاق هي الخيار الوحيد الذي سيمنع إيران من زيادة نسب التخصيب، وليست العقوبات، فضلاً عن الثرثرة «الإسرائيلية» المسماة تهديدات، فـ»إسرائيل» كانت قديماً يدها طولى ولسانها قصيراً، بينما هي الآن ذات يد قصيرة مغلولة، مع لسان طويل وفم كبير.
«إسرائيل» التي تتجنب افتعال مواجهة مع قطاع غزة، وتحاول بشتى السُبل اكتساب الهدوء، مرة بالتسويف وكسب الوقت، ومرة بالاعتماد على بعض الوسطاء للضغط على المقاومة، ومرة بتقديم بعض التسهيلات الاقتصادية، وكل هذا تحت بصر العالم وسمعه، تتنافخ بتهديد إيران، لذا فإنّ أكثر من يدرك خواء تلك التهديدات هم المفاوضون أنفسهم، الذين يعرفون أنّ كل ساعة تفاوض تعني إنتاج المزيد من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 ٪ في المئة، ويدركون أنّها نسبة قابلة للزيادة مع كل ساعة تأخير.
رغم أنّه لا خيارات متاحة أمام الولايات المتحدة الأمريكية سوى العودة للاتفاق النووي، لكن لا أحد يستطيع الجزم بنتائج المفاوضات في فيينا. ولكن استناداً إلى حركة الإمارات تجاه إيران، نستطيع القول إنّ الولايات المتحدة تبدو أقرب للاقتناع بالخطأ الفادح الذي ارتكبته بالانسحاب من الاتفاق النووي، ولكنها لا تريد دفع ثمن هذا الخطأ، خصوصاً لناحية تظهير عودتها نصراً إيرانياً، أو اعتباره تخلياً أمريكياً آخر عن حلفائها وهزيمة كما حدث في أفغانستان، لأنّ هذا سيكون له عظيم الأثر سلباً على النفوذ الأمريكي والحلف الأمريكي في هذه المنطقة، لذا تبدو مفاوضات عض الأصابع مستمرة إلى مدى منظور.
* نقلا عن : لا ميديا