"أدب الكيان الإسرائيلي"، الذي يُعَدّ شكلاً مبكّراً من أشكال الحرب الناعمة، حاول أن ينشئ ذاكرة زمكانية في فلسطين، بدلاً من الذاكرة العربية المتأصّلة.
يقول الكاتب الصهيوني، صموئيل يوسف عجنون، على لسان “تهيلة”، بطلة إحدى قصصه التي تحمل العنوان نفسه: “إنني أدعو الله أن يأتي اليوم الذي تتوسّع فيه حدود أورشليم حتى تصل إلى دمشق… وفي كل الاتجاهات”.
رُبَّ قارئ متفحّص وقلق سيسأل سؤالنا الممتد إلى أكثر من 100 عام: أيّ مخاطر ينطوي عليها مذهب عجنون وسواه من الكتّاب الصهاينة، الذين سخّروا الأدب وفنون الكتابة في تعميم بغيض للفكر العنصري التوسعي الإلغائي الاحتلالي المحمول على أوهام دينية توراتية تلمودية، تحضّ على القتل والتدمير واحتقار سائر الشعوب والأمم والديانات، وما زالت مستمرة حتى اللحظة؟ فـ”العرب فرّارون وخونة وجبناء، والألمان برابرة وقساة، والأتراك مرتَشون، واليونانيون أذلاّء، والإنكليز متواطئون، والبولنديون ضعفاء، والفرنسيون ماجنون.. أما اليهود فهم الجديرون بالتقدير لأنهم معصومون من العيوب والمذمات”. على أن الأخطر والأدهى والأمرّ أن تتماهى هذه المقولات اليوم مع بعض التيارات “التطبيعية” والادّعاءات والأباطيل، القائلة إن “الأدب الإسرائيلي” أدبُ محبة وتعايش وسلام، كما سنرى في شواهدنا اللاحقة!
كان الأديب الشهيد غسان كنفاني بين أوائل الكتّاب الذين تنبّهوا لخطورة الأدب الصهيوني في كتابه، “في الأدب الصهيوني”، والذي صدر في بيروت عام 1967، إذ يقول في مقدمة الكتاب “إن الحركة الصهيونية قاتلت بسلاح الأدب قتالاً لا يوازيه قتالها بالسلاح السياسي. كان الأدب الصهيوني جزءاً لا يتجزأ ولا غنى عنه، استخدمته الصهيونية السياسية على أوسع نطاق، ليس فقط لخدمة حملاتها الدعاوية، بل أيضاً لخدمة حملاتها السياسية والعسكرية، ولن يكون من المبالغة أن نسجّل هنا أن الصهيونية الأدبية سبقت الصهيونية السياسية، وما لبثت أن استولدتها وقامت الصهيونية السياسية بعد ذلك بتجنيد الأدب في مخططاتها ليلعب الدور المرسوم له من تلك الآلة الضخمة التي نُظّمت لتخدم هدفاً واحداً”.
أمّا الكاتب، د. حسن حميد، ففرّق بين أربعة أنواع من هذا الأدب، في كتابه “الأدب العبري.. المرجعيات – المصطلحات – الرؤى”، الصادر في دمشق عام 2001، وفق التقسيم التالي:
1- الأدب اليهودي، الممتد في جذوره إلى التوراة والتلمود، وينقسم إلى قسمين: أدب يهودي قديم، وأدب حديث. وكِلا الأدبين يعتمد أحياناً إحدى لغتي اليهود: اليديشيّة المعروفة في ألمانيا، واللادينو لغة يهود إسبانيا.
2- الأدب الصهيوني، الذي تغلب عليه الروح الأيديولوجية للصهيونية المتشكلة عقب ظهور البروتستانتية في أوروبا في القرن السادس عشر، إذ ليس هناك لغة موحَّدة لهذا الأدب، فهناك الأدب الصهيوني الفرنسي، والإنكليزي والعبري، بحيث لا يُفترض بالضرورة أن يكتب هذا الأدب اليهود فقط، فهناك أعمال أدبية صهيونية لأوربيين مسيحيين، كرواية “دانيال ديروندا” للروائية الإنكليزية جورج إليوت (1819-1880)، وسواها.
3- الأدب العبري، وهو المكتوب باللغة العبرية، وظهر في أوروبا على أثر الحركة البروتستانتية (الهسكلاه). وينقسم هذا الأدب جغرافياً إلى قسمين: أدب عبري فلسفي كُتب قبل قيام الكيان الصهيوني، بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر، وأدب عبري إسرائيلي كُتب مع قيام الكيان المذكور في فلسطين عام 1948.
4- الأدب “الإسرائيلي”، وهو محصِّلة الآداب الثلاثة السابقة: فهو أدب يهودي لأن أغلبية كتّابه من اليهود، وصهيوني بسبب اعتماده الأيديولوجية الصهيونية، وعبري لأنه مكتوب باللغة العبرية الحديثة، غير أنه، في الأغلب الأعمّ، محصور ضمن حدود فلسطين المحتلة.
وفي تحليله تلك النصوص الأدبية، على اختلافها، يرى د. حميد أنها ركيكة البنية، متداعية الأسلوب، باهتة الجمال، بسبب غياب السموّ التعبيري الخالص، وغلبة التفكير العقائدي المفعم بالعدوانية والعنصرية تجاه الغير. أمّا اتجاهاتها فهي خمسة، ويؤكد كلٌّ منها ناحيةً أو رؤية خاصة. فهناك النزعة العنصرية، وهناك الحضّ على القوة والعدوانية، وخصوصاً ضدّ العرب، وهناك الإحساس بالغربة والتفاهة، إذا كان اليهودي يعيش خارج الكيان الصهيوني، وهناك النظرة الدونية إلى العربي والمسلم، وهناك، أخيراً، النظرة الطوباوية إلى أرض الميعاد. في حين أن أوصاف هذا الأدب نستشعرها، – بحسب د. حميد – إمّا عبر ظهور الروح البكائية والأحزان المفتعلة، وإمّا عبر الحديث عن المعاناة التاريخية، بدءاً من زمن البابليين، وانتهاءً بالزمن الراهن، وإمّا عبر انتحال صفة الضحيّة لليهود عبر التاريخ، وإمّا من خلال إشاعة موضوعات شتى، موشّاة بالألوان القاتمة، كالقلق، والحزن، والنفي، والغربة، والموت، والحرب والعنف… وغيرها.
في روايته “نجمة في الريح”، نتبيّن مدى احتقار الكاتب الصهيوني، روبرت ناثان (1894- 1985)، لشخصية الإنسان العربي، إذ يقول عنه: “إنه لا يلعب بعنف فقط، لكن بوضاعة. وهو جبان، ويفضّل أن يطلق ساقيه للريح عن أن يقاتل. وإذا قاتل فليس لديه أي سبب إلاّ النهب، وهو لا يجيد التصويب. وإذا هرب ترك إخوانه القتلى من دون اهتمام. وإن الطائرات العربية، إذا أغارت، فهي لا تقتل إلاّ الأطفال اليهود”!!.
فضلاً عمّا سبق من طغيان الاستعلائية والعنصرية فيما يسمّى “الأدب الإسرائيلي”، سنلمس أن هذا الشكل من الكتابة السردية، والذي يُعَدّ شكلاً مبكّراً من أشكال الحرب الناعمة، حاول أن ينشئ ذاكرة زمكانية في فلسطين، بدلاً من الذاكرة العربية المتأصّلة، عبر قصص وحكايات استولدها لتؤكد الوجود اليهودي وادّعاء تاريخية هذا الوجود، صاحَبَهُ احتفاءٌ وترحيبٌ في الأوساط الثقافية العالمية، تمثَّل بمنح صموئيل يوسف عجنون (1888-1970)، الأوكراني الأصل، البولندي المولد، والذي هاجر إلى فلسطين عام 1907، وعاش بين يافا والقدس (المحتلَّتين راهناً)، جائزة نوبل للآداب عام 1966، مع الكاتبة اليهودية السويدية نيلي زاكس. ولعلّ روايته “أمس وأول من أمس”، التي تتناول حياة اليهود في فلسطين في بداية القرن الـ20، خيرُ مثال على ذلك.
لم يقتصر هذا الترحيب وهذا الاحتفاء على بعض بلدان العالم الغربي، بل شملا تالياً العالم العربي، الذي يدركُ أكثر من غيره هولَ الجريمة المرتكَبة بحق الشعب الفلسطيني بعد اقتلاعه من أرضه، ومحاولة محو هويته وذاكرته وتشتيته في أنحاء المعمورة، وإفساح المجال لإقامة الكيان المزعوم. وهذا برهان آخر على نجاح الحرب “الأدبية” الناعمة للثقافة والفكر الصهيونيَّين.
ففي رواية “أسطورة عن الحب والظلام”، للكاتب الإسرائيلي عاموس عوز، والتي لقيت ترحيباً ورواجاً في معرض الكتاب في الرياض، في آذار/مارس 2010، وتُرجمت إلى العربية و16 لغة أخرى، بعد نشرها باللغة العبرية عام 2002، ينحو عوز نحو المذكِّرات الشخصية، والتي تأخذ القارئ إلى طفولته منذ اللحظة التي انتحرت فيها والدته عندما كان عمره 15 عاماً، وعندما شبّ في “إسرائيل” خلال الأعوام الأخيرة من الانتداب البريطاني في فلسطين. وهي مزيج من الكوميديا والتراجيديا، من أجل تقديم صورة حميمية لصبي يدخل في طور البلوغ وصورة لـ”دولة” وصراع عمره 60 عاماً، بحيث يقول عوز إن “أسطورة عن الحب والظلام” هي “سيرة ذاتية تكشف قصة أسرتي، لكنها أيضاً قصة ميلاد إسرائيل.. من المهمّ لي، بصورة خاصة، أن تُترجَم هذه القصة الآن إلى العربية، وتنشَر وتوزَّع في العالم العربي”.
وهنا، ينبغي لنا ألاّ ننسى أن العالم العربي عرف عوز أيضاً من خلال روايته “حنة وميخائيل”، التي صدرت في القاهرة عام 1994 عن “الدار العربية للطباعة والنشر”، بعد أن ترجمها رفعت فودة، وتركزت مقولتها على “بالدم والنار سقطت يهودا.. وبالدم والنار ستنهض يهودا”، وكانت تعبيراً حقيقياً عن عقيدة عاموس عوز التي ترى “أنّ هذه الأرض وطن لشعبين، ومن الواضح أنه ليس لديهما وطن آخر ولا خيار آخر. لذا، فإنّ عليهما أن يتقاسماها بشكل ما”.
وجرياً على عقيدة عوز وسواه من الكتّاب الصهاينة، المتقنّعين بما يسمّى دعوات “السلام والتعايش المشتركَين”، والذين يتناسَون ما ارتكبته عصابات “البالماخ” و”الأرغون” و”الهاغاناه” و”شتيرن” بحق مئات الآلاف من الفلسطينيين، قتلاً وتهجيراً، تأتي بعض الروايات لتوهم قارئها بجدوى تقاسم الأراضي سلمياً، وتبرير الوجود الصهيوني في فلسطين.
ففي عام 2007، صدرت في القاهرة رواية “ياسمين”، للكاتب الإسرائيلي إيلي عمير (وُلد في بغداد عام 1937، وقَدِم إلى “إسرائيل” عام 1950)، بعد أن ترجمها حسين سراج، الذي سبق أن ترجم مذكِّرات سفير “إسرائيل” السابق في مصر، موشيه ساسون.
تروي “ياسمين” حكاية حب مثيرة للعواطف بين مستوطن يهودي إسرائيلي ينحدر من أصل عراقي، ويُدعى نوري، وبين شابّة مسيحية فلسطينية من شرقي القدس المحتلة، تُدعى ياسمين. وتجري أحداث القصة في “أورشليم” القدس (المحتلة) في الفترة ما بعد حرب الأيام الستة، وهي عبارة عن “اللقاء بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني”، لكنها تكشف أخيراً أن الجانبين لن يلتقيا، وأن الحرب بينهما سوف تستمر. فبعد حالة من الشدّ والجذب، تقرر “ياسمين” أن تسافر إلى باريس، بسبب قناعتها باستحالة اللقاء على الرغم من حالة الحب، لترسل إلى “نوري” رسالة، تقول فيها: “كُتب علينا أن نقاتل إلى أن نستردّ الأرض التي سلبتموها”.
وعلى هذا، يمكن القول إن “الأدب الإسرائيلي”، القائم على أباطيل وادّعاءات مزيِّفة للجغرافيا والتاريخ، وعلى الرغم من الاحتفاء والترحيب العالميَّين به، وتعميمه الفكرَ العنصري الإلغائي، واتِّخاذه، منذ البدايات حتى اليوم، صورةَ الحرب الناعمة، بات مكشوفاً للجميع، لا يتباين كتّابه ومنظّروه عن القادة والزعماء للعصابات الصهيونية، التي تسعى، عبر كل ما تملك، لتكريس الوجود اليهودي وتثبيته في أرض فلسطين، وإلاّ فكيف يدعو كاتب أو أديب إلى “السلام والتعايش المشتركَين” وهو يعيش في بيتٍ للاجئ مهجّر، أو في مستوطنة بُنيت على أنقاض بلدة أو قرية فلسطينية مدمَّرة؟!
* المصدر : الميادين نت – عمر جمعة