الحزن فاكهة الشاعر عبدالقوي محب الدين، أو السدر الذي ينتج منه هاجسه عسلا مصفى. الحزن في صورته الشامخة التي يهندسها خياله الشعري العبقري. فحين تقرأ له تلمس من أول نظرة في العنوان مذاقه الحار، عناوينه المغمسة بالشجن، قصائده المضمخة بالألم، طريقته في نثر أبياته الموزونة ملء الصفحة، وكأنما ينثر السكر في هاجس نملة علامات تعجبه واستفهامه وتنقيطه التي يتركها بين كلماته، كأنها انسياحات الصلصال من بين اللبنات مسافات بين ألفاظه كأنها تنهدات عاشق وتشويق متصل يسارع الأنفاس. كل تلك اللمسات توحي بشعرية من نوع فريد وشاعر متفرد. التفرد والإدهاش أبرز مظاهر قصيدة محب الدين الحاضر بقوة في المشهد.
بداية من قصيدة «صمت المرايا»:
أطوف مدائن الأحلام، أبني
بها صنعاء شاملة المزايا
وشمسٌ في مآذنها تصلي
وتصغي للسماوات الحكايا!
فمن مدائن الأحلام بنى الشاعر صنعاء شاملة المزايا، ومن صنعاء الفاضلة جعل الشمس تصلي في المآذن في تجليات تاريخية دينية وسردية شعرية سابغة لرحلة «الشمس» من كهانة «العرش» إلى تسابيح المئذنة. ثم يبني من صباحات المآذن الخاشعة ترتيل الأساطير، وحي السماوات.
ومن قصيدة «خيبة»:
صمتٌ، وخيبةُ شاعرٍ تسعى
في نبض هذا الليل كالأفعى
وقصائدٌ بيضاء أنسجها
لأكفّن العشرين والتسعا!
في جو الصمت المخيب وهدوء الليل المخيف إلى حد بدا صوت نبضات الشاعر وكأنها صادرة من قلب الليل. وفي خضم هذه التناقضات استحضر في ذهنه صورة الأفعى. وبالتداعي الخيالي نفسه، استحضر الكف البيضاء في قصة موسى، ثم استحضر السحرة وقد آمنوا بما جاء به الشاعر واتبعوه، ثم استحضر من لون البياض الكفن، لأن فرعون عبدالقوي غير فرعون موسى، كما أن موسى فرعون غير موسى النظام السابق الذي ثار عليه عبدالقوي. في هذه اللوحة الإبداعية تناص بديع مغاير لحقل الشاعر المعتاد ذاتي التناص، يبرهن فيه قدرته على التناص مع التاريخي والديني بل ومع الميتافيزيقي.
من قصيدة «غصة لا تشبع»:
ضاقت وأنفاسي تكاد تقطّعُ
وتمج قلب الأمنيات وأبلعُ
وكأنني حلقٌ تحاول شهقة
أن أستريحَ، وكل ضوءٍ إصبعُ
والوقت يسكب حظه وأنا على
جوع انتظاري، غصة لا تشبعُ!
آلية التوالد النصي لديه مدهشة. وكأنني حلق، تحاول شهقة... يجعل المتلقي يعيش صورة الحلق الحرجة، ثم ينقله معه تلقائيا إلى صورة تالية متوقعة: «تحاول شهقة أن أستريح»، «وكل ضوء إصبع». يصور أشعة الضوء كأصابع تأتي على جفن العين لإغماضها. وعلى ذكر الضوء جاء ذكر الوقت كآلية وخبرة في التعامل مع توارد الخاطرة.
من قصيدة «ذبول»:
أسير وداخلي رعب الوصولِ
إلى الفجر الملوّح من أفولي!
يسير إلى الفجر من أفوله. تداخل الوجه والوجهة الضد في الضد، في إثبات أن كلاً منها جاء من الآخر، كمعنى قولهم إن الإبداع من المعاناة. وفي تناص متفوق من قول البردوني في قصيدته عن المتنبي «جاء من نفسه إليها وحيدا».
وأخشى أن يباغتني لقاءٌ
تخبئه القصيدة في «فعولِ»!
كأنما يسير في حقل ألغام يسير في حذر، مع انهماك في موسيقى القصيدة. لكن مع ذلك قد تضع له القصيدة فخا في إحدى تفعيلاتها العروضية.
أمر في غاية الخطورة، أن من يضع لك اللغم في الطريق والبغتة في التفعيلة القصيدة التي تكتبها لم يعد هناك أمان في خارج وعيك وحتى في دواخل أعماقك، وقد تهتز ثقتك حتى في بنات أشعارك. واقع مرعب.
«هنا تتناسل الأسقام حولي»!
أنت من تنجب أسقامك من داخلك. الاستفادة من الموروث الديني النبوي في بناء لبنات النص الشعري بهذا السبك الفاتن من أسرار الشاعر المتصوف عبدالقوي محب الدين إن في الجسد مضغة إذا فسدت فسد سائر الجسد، ماذا بعد يا ذا السر الباثع؟!
«وأطعمها حروفا من ذبولي»!
يا إلهي! مشهد تراجيدي بديع ودراما شعرية متوجسة في جو كهفي قلق. «تناسل الأسقام»، الأسقام الأكولة لا مناص من إطعامها المشاعر حتى وإن كانت المشاعر في حالة ذبول. أليس الذبول حالة من الحرج الذي آلت إليه مخاضات التناسل يطعمها حروف المشاعر، رمق الذبول، وإلا أكلت الشاعر؟!
«هنا والشمعة الخرساء تهذي»!
كان هنا، في لحظة الداخل، وما يزال هنا في لحظة الخارج في هنا ذاته! شمعة خرساء تهذي خرساء وتهذي! استنطاق الضوء صوته ومعاينة هذيانه بالطاقة فوق الضوئية مع كونها منبعثة عن روح ذابلة لكنها تقرأ هذيان الشموع.
«ليحصد طولها في الصمت طولي» قصيدة مصاغة بوعي ياقوتي وآلية اسطرلابية في توطين المعرفة. مواقع الصمت المقدسة «ليحصد طولها في الصمت طولي» هنا أينعت محاصيل المسافة واللحظة/ الموسم تؤين للحصاد طقوسا وتبين للصمت أطوالا.
تبثّ سمومها الساعات، أصغي
ويصغي لانطفاءاتي ذهولي!
أليس للساعات عقارب؟ وعندها: فلا نستغرب أن لها سموما. أليس للعقارب سما؟ «أصغي» تعالوا مع الشاعر يصغي للسم. هنا نحن إزاء محيط سمعي شديد السمية وأذينات شديدة السمعية وهذيانات شديدة الشمعية. قصيدة سوريالة شديدة الشعرية.
«وليلٌ أبيض العينين مرّت»! من الصعب اجتراح صورة شعرية من واقع توالد النص ذاته إلا في حالة شاعر حساس للغاية وشاعرية ذكية جدا، لأن إدراك لحظة الانبجاس يتطلب تلك الخصوصية، وإلا فإن الغالب على الإبداع الشعري الاشتغال على المخزون الصوري في الوعي فيما يعرف بالتناص مع الآخر ومن القدرة الالتقاطة العبقرية هذه «ليل أبيض العينين» ومن التمكن الخيالي المذهل مع سهولته الممتنعة.
«مرارا تحت جثته فصولي»، «جثة الليل»، اجتراح صوري من اجتراح قبله واعتماد على الذات بما يمكن وصفه بعصامية شعرية عالية يملكها محب الدين ومرور فصول الشاعر الزمنية مرارا من تحت جثة الليل في تجاوز لمعايير الزمن الحسية إلى معايير مجردة.
تأكسد في مساماتي فسالت
تناهيدٌ من الوجع الفضولي!
لأنه يرى بمنطق الليل في حالة تجلّ علوي، لذلك جاءت النتيجة مجردة في ثوب مجسد هي التناهيد، والدليل مجيئها من الوجع الفضولي، لأن الفضول حالة ذهنية مبعثها طلب المعرفة، لكن وجع الفضول نتيجته، أليس للفضول تبعات؟!
وأصداء الظلام لها نيوبٌ
تُعِدّ القلب للحزن الأكولِ!
ما يزال في جوف المشهد القلق التجويف الذي يحدثه الشاعر في جوفه ويوسعه كأنما يشقه من داخل كبسولة من الضوء.
ذبول
أسير وداخلي رعب الوصولِ
إلى الفجر الملوّح من أفولي
وأخشى أن يباغتني لقاءٌ
تخبئه القصيدة في «فعولِ»
هنا تتناسل الأسقام حولي
وأطعمها حروفا من ذبولي
هنا والشمعة الخرساء تهذي
ليحصد طولها في الصمت طولي
تبثّ سمومها الساعات، أصغي
ويصغي لانطفاءاتي ذهولي
وليلٌ أبيض العينين مرّت
مرارا تحت جثته فصولي
تأكسد في مساماتي فسالت
تناهيدٌ من الوجع الفضولي
وأصداء الظلام لها نيوبٌ
تُعِدّ القلب للحزن الأكولِ
وجدرانٌ تنوء بحمل ظلٍّ
تسرب من منى الهجس الخجولِ
وسقفٌ من نزيف التبغ، أدعو
فيومي للحرائق بالهطولِ
وهذا الباب عجزٌ لا يؤدي
يؤذن للمخاوف بالدخولِ
هنا يا خيبة الحلم الممني
تغص بوحشة المعنى وحولي
أغيب أغيب لا موتٌ لأُنسى
ولا عدمٌ تنكر في طلولي
ولا بوحٌ يئن ولا سكونٌ
فبيني يا غرابة أو فزولي
أنا والليل غابات أراني
أتوه به، وأخشى من وصولي!
* نقلا عن : لا ميديا