"إضرام النيران" عنوان لرواية بين أيدينا للروائية اليمنية المبدعة أحلام جحاف، وهي رواية محورها الرئيسي التعليم في اليمن، خلال فترة محددة، تقريبا 12 سنة من عقدي الثمانينيات والتسعينيات، أثناء عملها كمدرسة في مدينة الروضة، إحدى ضواحي صنعاء. عنوان الرواية مأخوذ من عبارة لسقراط أوردتها الروائية في الصفحة الأولى.
سقراط: "التعليم هو إضرام النيران، وليس ملء الوعاء". العنوان مناسب، ودلالته منسجمة جداً مع سياقات الرواية وأحداثها وأهدافها، لأنها كما قلنا تدور حول العملية التعليمية والتربوية. هذا العنوان المقتبس من سقراط ليس لأن سقراط الوحيد الذي تحدث وأجاد الحديث عن هذا الموضوع، ولكن لأن سقراط بفلسفته الإنسانية العميقة والعبقرية حالة إنسانية عالمية، وتناول أفكاره صار سمة عامة أو ظاهرة طبيعية عند جميع الأدباء والمثقفين والدارسين. وكان يمكن للروائية جحاف وضع عبارة من الثقافة العربية أو الإسلامية أو من إبداعاتها، وهي أديبة قادرة على خلق العبارات المناسبة تستنبطها خلال كتابتها الرواية، لكني أعتقد أن اختيارها لهذا العنوان له دلالة مهمة تخدم الرواية ولم يأتِ مزاجيا.
في "إضرام النيران" سأعتبر أن ثمة علاقة فلسفية بين العنوان وبنية الرواية الثقافية والفنية، وسأظل بهذا الاعتبار إلى انتهائي من قراءتها.
وفي الحقيقة لست بصدد دراسة الجوانب الفنية والأدوات الروائية والإبداعية، وهي جوانب تستحق الوقوف وقد ندرسها في مرحلة تالية؛ لكني أريد في هذا العرض معالجة القضايا والمشكلات المتعلقة بالتربية والتعليم في اليمن والمستفحلة منذ عرفت المدرسة، من فترة الثمانينيات إلى هذه الفترة في العام 2021. طوال 40 سنة والتعليم لا يليق باليمن كشعب عريق في التاريخ والتراث والثقافة والعلم، وقد كنا عبر 14 قرنا رواد العلم والتعليم في العالم كله.
أحداث الرواية جرت خلال عقد ونصف تقريبا، وهي المرحلة التي دونت فيها الروائية أحلام جحاف سيرة حياة تعليمية تعتبر أنموذجاً رائعاً وكافيا لكشف فساد التعليم وشرح كيفية معالجة وتحسين وتطوير العملية التعليمية والتربوية في اليمن لقرن قادم.
الرواية كما تقول أحلام جحاف هي سيرة ذاتية وليست رواية، من باب التواضع والصدق، لكني وجدت فيها مقومات الرواية والفن السردي والوصفي والإبداع، ولا بأس أن تكون قصة واقعية حدثت بالفعل، ليس ثمة مشكلة في ذلك، طالما وهي تقدم فكراً وأدباً إنسانياً راقياً يخدم المجتمع، وإن لم يكن كذلك فما فائدة الأدب برمته؟!
قال الناقد محمد العابد إن أول أعمال أي روائي لا يخرج عن كونه سيرة ذاتية، مهما حاول إخفاء ذلك.
لقد ناقشت منذ أول باب في الكتاب مواضيع مهمة للغاية، ومنها أن الجامعة كانت تحدد لطلاب الثانوية حداً أدنى من درجات النجاح لدخولها، ومن ضمنها كلية التربية، وتلك كارثة.
الرواية طرحت موضوع عدم الثقة بالتخصصات اليمنية ووضعها في غير أماكنها من ناحية، ومن ناحية الانتقاص من كون المعلم أنثى، وأنها غير جديرة بتقديم المعلومة بالشكل الصحيح، وطرحت موضوع سيطرة تيار الإسلام السياسي على مفاصل التعليم في اليمن. كما أن تعامل الإدارة مع المعلمين يتصف بالنظرة الدونية، إضافة إلى احتقار إداري فظيع للطلاب.
سنتان قضتهما كمعلمة في مدرسة في مدينة الروضة وهي ضاحية لصنعاء من جهة الشمال الشرقي، ولم تمض تلك السنتان حتى قدمت استقالتها منها، تلك المدرسة التي أصبحت من ضمن كادرها بعد أن لم يتم قبولها في معهد لإعداد المعلمين لأسباب أيديولوجية فلم تكن من تيار إسلامي ما.
كانت فرصة التحاقها بكلية الطب، الذي هو حلمها، غير مهيأة، لأن هذه الكلية لم تفتح إلا بعد أربع سنوات، وهذا ما جعلها تسجل في كلية العلوم، وكانت ماتزال يحز في نفسها أنها لم تحقق أمنيتها في دراسة الطب، إلا أنها اقتنعت أن ذلك ليس مجالها بمجرد رؤيتها عملية تشريح ضفدع في معمل كلية العلوم، وهذا ما جعلها تلتحق بقسم دراسة الفيزياء والرياضيات.
الرواية مشوقة وممتعة، وأعجبني أسلوبها السردي والوصفي في نقل القارئ من مشهد لآخر وتقبله كواقع إضافة لتقبله كإبداع، وتنقلها بين المواضيع التي تسردها في الرواية بخفة، ودون ترك فجوة ما، وتشعرك بأن ما أوردته في مشهد وباب هو ما يجب أن يرد لكي يرتبط بالذي يليه بجدارة فنية، في حين ألا غنى لمشهد عن غيره في أي موضع من الرواية. كذلك الأسلوب الوصفي لملامح الشخصيات في لقطات درامية جميلة.
"هزت رأسها وهي تقرأ الإرسالية ونظرت إليَّ بنوع من التحدّي بعينيها الواسعتين من خلف اللثام الأسود. سألتني وهي تتجاهل كلامي: ألا زلت شغوفة بالقراءة؟ وتابعت دون أن تنتظر إجابتي!
تابعت حديثها بشيء من الجدية بعد أن قطبت حاجبيها... رددت وكأنها لا تسمع سوى صوتها...
واحتاجت لفترة من الوقت حتى تصمت وتكف عن إخبارنا بأنها تستحق هذا المنصب.
الأسلوب الوصفي لحالة الشخصية الحوارية من أهم أدوات القص، لأنها توفر مشاهد درامية مقنعة، وسناريو مشبعاً، وأغواراً مسبورة، في كل محطة.
لو كانت هذه الرواية بريطانية لرأيت العجم يحتفلون بها ويمثلونها في مسلسل تلفزيوني، ولرأيت العرب يترجمونها ويدبلجون ذلك المسلسل، لمجرد أنه أدب أوروبي، وأكبر دليل على ذلك قصة "سالي" مع أنها قصة حقيقية أو حدثت في الواقع، مثل رواية أحلام جحاف، هي قصة حقيقية لكنها صاغتها بأسلوب روائي بديع، فيه كل مقومات الأدب الروائي العالمي، لكن لأنها يمنية لا يحتفى بها، ومع ذلك أنا متأكد أن هذه الرواية ستجد طريقها إلى التلفزيون في المستقبل.
رمزية
تصويرها للواقع الشعبي بحذافيره هو ما جعلني أصف أدبها بالأصيل، هذه الأصالة هي التي ستنقلها إلى مصاف الأدب العالمي.
العم عبدالله، الذي كان يعمل وكيلاً للمدرسة، وكانت الطالبات والمعلمات يسمينه "أبي عبدالله"، وتصويرها زيه التقليدي الشعبي المكون من العمامة والقميص المقلم ذي الأكمام الطويلة الواسعة والتي يتم ربطها خلف الرقبة لتظهر من تحت القميص، وكان يتحرك ببطء كأنه يسحب قدميه سحباً بحذائه المميز والذي كان يسمى "التشيكي".
هذه السردية الدقيقة للواقع اليمني بشعبيته وشخصياته الشعبية التي يجسد إحداها العم عبدالله بزيه التقليدي وأسلوبه الصادق في التعامل مع الجميع، وكيف أنها استطاعت أن تمرر من خلال شخصيته مكنونات في نفسها وتقولها بلسانه وهو كذلك بما يحمل في قلبه من هموم كثيرة، حول المجتمع والظلم والمشاكل التي يحكيها عما تمارسه السلطة، في كل الحقول وفي حقل التعليم خاصة، اعتبار جميع المعلمين والطالبات العم عبدالله مرجعية ومستشارا لمشاكلهم وهو يفعل ذلك معهم بكل حكمة، ما يجعلك تربط -بلا شعور- العم عبدالله بالعبارة السقراطية التي تصدرت الرواية: "التعليم إضرام النيران، وليس ملء الوعاء". كانت هذه الرمزية كافية لاستيحاء التاريخ اليمني المترع بالحكماء والفلاسفة والمفكرين.
هذا الربط الفلسفي البديع بفلسفة سقراط لا يجعلك تندم على أنك لم تختر عبارة بدلا عنها، مثلا لعلي ولد زايد الفيلسوف الشعبي اليمني العظيم، الذي قال:
يقول علي ولد زايد
ما رزق يأتي لجالس
إلا لقايم وجالس
وإلا لأهل المغارس
ومن قرأ في المدارس
ذلك كله يؤكد جانب التزامها الأدبي في نقل الواقع اليمني بصدق كما هو، وبأسلوب فني وحس روائي بديع، وكذلك ثقافتها الروائية للأدب العربي والعالمي، الذي يعد أهم معايير عالميته واقعيته والتزامه بقيم مجتمعه وملامح بيئته وتراثه ومعالمه، ولنا في أدب نجيب محفوظ خير برهان، فهو بالتزامه ذلك استطاع أن ينقل رواياته إلى العالمية مع أنها غائصة إلى أخمص قدميها في شعبيتها وبيئتها المصرية في كل رواياته، ولم يتجاوز مصر بكل إيجابياتها وسلبياتها، في "زقاق المدق" و"ملحمة الحرافيش" و"رحلة بن فطومة"... وغيرها.
كوميجيديا
لقد استطاعت أحلام جحاف صياغة القص الروائي اليمني من واقعه الحقيقي دون تكلف أو تشويه أو تجميل، وبتقنية عالية تجد التراجيدية والكوميدية والحب مكانا مهما في أسلوبها السردي لهذه الرواية، فثمة قصص حب ضمن الأحداث. الكوميديا حاضرة في مشهد السنافر، وكيف أنها تعلمت ألّا تكون جادة زيادة على اللزوم، وكانت الطالبات في الصف يشبهن كل مدرس بالسنفور الذي يشبهه في مسلسل "السنافر"، وعندما اكتشفت ذلك سألتهن عن السنفور الذي يشبهها فقلن لها إنها لا تشبه سنفوراً، وعندما استفسرت عن سبب ذلك قلن لها لأنك غاضبة طوال الوقت!
التراجيديا المصبوغة بشيء من الكوميديا التلقائية، وفي مشهد الأستاذة التي صعقتها الكهرباء فماتت بعد أن فتحت باب حوش المنزل وكان فيه ماس كهربائي، وكان بإمكانها تفادي ذلك لو أنها صدقت ابنها الذي أخبرها بأنه شعر بشيء غريب حين حاول فتح الباب، لكنها اعتبرته يحتال لكي يسوق السيارة.
المشهد الحزين لوفاة مديرة المدرسة بالسرطان والتي كانت تتعامل معها بقسوة يذكرني بالآنسة "منشن" في مسلسل "سالي"، وهذه معروفة أنها قصة حقيقية تحولت فيما بعد إلى رواية.
توصيف ازدراء المدرسات اليمنيات مصادقة المعلمات العربيات الوافدات لأنهن قد يحملن أفكاراً غربية.
استكثار اليمنيين وجود أستاذة يمنية تحمل لقب معلمة، واستكثار مديرة المدرسة عليها أن تعلم مادة الرياضيات واقتراحها لها أن تقوم بوظيفة مختصة المكتبة.
وصفها الصراعات التي تدور داخل المدرسة بين المدرسين والإدارة.
الروضة
الجزء الذي أفردته أحلام جحاف للتعريف بالروضة تاريخياً، لم يكن مجرد سرد أو وصف بقدر ما يحمل كثيراً من مشاعر الحب والاعتزاز، ومع ذلك ففيه من التشويق ما يجعله كعنصر هام يعتبر من أدواتها الروائية المتميزة، بحيث تشدك وبصورة كلية في كل سطر إلى السطر الذي يليه فتستمر في القراءة دون ملل ولا تشعر بمرور الوقت، مستندة إلى ذاكرتها من حكايا الكبار وإلى ما دون في صفحات التاريخ.
متعة التدريس
تحت عنوان "متعة التدريس" تنتقل أحلام لتحكي الطور الذي استجد بها في عالم التدريس، فبعد أن كانت لا تحبذ التخصص في الحقل التعليمي، وعلى غير المتوقع وجدت نفسها عاشقة لهذا المجال الشاق، وصارت تربطها بالطالبات علاقة حميمة. وأستغرب كيف أنها لم تعرف شيئا عن علم النفس التربوي إلا أنها تجاوزت المشكلة حين وجدت نفسها تمارسه بالفطرة، ولكنها لم تحكِ، مع ذلك كان ثمة تطور إيجابي يؤزر العلاقة بينها والمعلمات والمديرة، ويظهر ذلك ضمنيا من السياق.
وتستمر جحاف بالسرد في هذا الباب "متعة التدريس"، وتقول: "ما أذكره عن بعض المعلمين في طفولتي هو حبهم لتحويل مادة الرياضيات إلى ألغاز ورموز غير مفهومة، مما يجعلني أتوقف عن سؤال المعلم عن ذلك لكي لا تسخر مني الطالبات"، الأمر الذي جعلها تتخذ إجراء تكسر به ذلك الحاجز من الخجل الذي يعتري الطالبات، وذلك ما جعلها تطلب منهن أن يسألنها عن كل شيء.
تحاول جحاف بكل الطرق كما تحكي أن تحل كل الإشكالات التي حدثت معها في صفوف الدراسة. قالت إنها كانت تعرف جيداً نقاط ضعف المعلمين في التعامل مع طلابهم، لأنها عانت منها.
الوضع التعليمي أيام النظام السابق وهذا اللاحق كارثي، غير أن هذا له ظروفه المقنعة بسبب الحرب والحصار، لكنه فيما مضى كان مخجلا. وفي الحقيقة قد نعزو ذلك لعدة أسباب، من ضمنها أن العملية التعليمية كانت ماتزال في طور طفولي، لكون اليمن حديث ثورة، وهناك دواع لحدوث شلل تعليمي، السعودية إحداها، ومن ضمنها وجود كيان جاهل معيق يشبه السرطان تغلغل في مفاصل وزارة التعليم اسمه "الإخوان المسلمين".
الرواية التي بين أيدينا توصف ذلك الفشل الذريع الذي مني به اليمن في الجانب التعليمي.
أساليب تربوية خاطئة
ثمة جزء مهم أيضا في الرواية تحت عنوان "النصيحة"، تحكي خلاله أهم الأساليب الخاطئة المتبعة في العملية التربوية آنذاك. قالت إنها تلقت نصيحة فيما إذا هي أعطت الطالبات معلومة خاطئة بدون قصد فكتبنها في الكراسات، ثم إذا اكتشفت ذلك فإن عليها تجاهله، قيل لها: تجاهلي ذلك تماماً، وأن عليها اتهام أي طالبة تكتشف خطأ المعلومة بالغباء، لأن في الإقرار بذلك فقدان ثقة البنات.
وفي نهاية هذا الجزء ترى جحاف أن الاحترام علاقة لا تبنى على الخداع والغش بكل تأكيد، وهيبة المعلم لا تقوم على الأكاذيب.
العصا
يليه فصل بعنوان "العصا" يدخل ضمن المواضيع الناقدة للأساليب التربوية الخاطئة، وأحداثه مؤثرة.
وفي "اضطرام النيران" جحاف ثمة باب خاص بالعصا.
قالت إن كل معلم ومعلمة في مدرسة الجيل الجديد كان يحمل العصا، والطلاب يتنافسون على من يحضر العصا للمعلم الذي ليس معه عصا، وهذا صحيح؛ فأنا في كل المدارس التي درست فيها كانت العصا مادة أساسية في العملية التعليمية والتربوية وماتزال إلى اليوم حتى في المدارس الخاصة.
لقد استطاعت إسقاط نظام العصا على الأقل في حصصها وبأسلوبها القائم على الاحترام المتبادل بينها والطالبات. أوجدت علاقة حب جميلة دون اللجوء للعنف، وانتقدت في الباب نفسه موضوع عقاب الطلاب الذين يتأخرون عن الحضور بتنظيف الساحة، واعتبرت ذلك من أسباب إهمال المجتمع لنظافة الشارع في المستقبل.
أمين الصندوق
في هذا الباب ناقشت جحاف موضوع الاستقطاعات التي يقوم بها أمين الصندوق من مرتبات المدرسين. وفي الحقيقة أن هذه الحالة المستفحلة من فساد أمناء الصناديق موجودة في كل القطاعات الحكومية. وقد لاحظت الروائية جحاف في هذا الباب من روايتها ومن خلال ردود أفعال زميلاتها في المدرسة على رفضها خصم مبالغ من مرتبات الموظفين بدون حق، وحاولن التبرير له والسكوت على هذا الفعل الشنيع هو المتصدر للموقف، وإذن فالموظف والمواطن نفسه بصمته على الاستقطاعات غير المشروعة جزء من استيطان هذا الفساد المالي في موازنة الدولة.
وطرحت تحت عدة عناوين قضايا تعليمية وتربوية بأسلوب سردي ووصفي بديع: طابور الصباح، معلم أول، الوحدة والاندماج بين الشطرين، نشوء أحزاب سياسية كثيرة بعد الوحدة، حرب الخليج وأثرها على المغتربين والميزانية.
تقارير
ترفع الأستاذة فاطمة تقارير سرية إلى مكتب التربية والتعليم بالمديرية يتم فيها تقييم أداء المدرسين سلباً وإيجاباً، وبموجب ذلك تتخذ المديرية التعليمية قرارات حول كل منهم. هذه القصة ذكرتني برئيسي الجديد في العمل قبل 20 عاماً تقريباً وخسرت بسببه منصبي كسكرتير لأنه طلب مني رفع تقرير عن كل موظف على حدة، لكني رفضت وقلت: لن أرفع عن زملائي تقريراً واحداً. وتم اتخاذ قرار بنقلي إلى إدارة أخرى وتعيين سكرتير جديد من أقاربه.
* نقلا عن : لا ميديا