يُقال -وثمة تسليم بما يُقال ولكن لا نسلم بقطعية كل قول- إننا في عصر الصورة.. وعلى أساس أن عصر الصورة هذا هو العصر الذي توصل فيه العقل الإنساني إلى أرقى درجات الذكاء، ولكن عصر الصورة ابتدأ برأيي منذ زمن بعيد، وأن ما تم التوصل إليه في زمننا لا يختلف عن ذي قبل لأننا أصلا نعني الصورة التجريدية وقد لا تكون التجريدية المقصودة، لأننا نريد الصورة الشعرية دون مفهوم التجريد فلا نعنيها فلسفية بحتة، ولا نعني إطلاقا المشخصات فقد يفهم أنها البصرية. وإذن فلا يهمنا الصورة التي يتحدثون عنها، لأنهم يعنون ما تراه العين ونحن نعني ما يراه العقل الشعري، ولو كنا نعني ما تراه العين لاعتبرنا قصائد عبدالله البردوني وبشار بن برد وأبي العلاء المعري ضربا من العمى. وإذن ماذا نعني بالصورة في الشعر طالما هناك من ينظر إلى الشعر من بوابات الحواس الخمس؟!
إذا عرفنا ذلك أي مفهوم الصورة في الشعر سنعرف بقية المفاهيم المتعلقة بالشعر خاصة والأدب عامة، كالحداثة والواقعية والبنيوية والتفكيكية والسريالية وبقية الشواكل.
فعند قول البردوني:
«مثلما تعصر نهديها السحابة
تمطر الجدران صمتا وكآبة»
أين الصورة الشعرية في هذا البيت؟!
وإذا ما نظرنا إلى المحددات الحسية فيه ونحن نعرف أن الشاعر قائل البيت فاقد حاسة البصر، وجدنا أن هذا البيت أسرج في مخيلتنا صورة لامرأة تعصر نهديها، نحن تخيلناها في مخيلتنا بصرية، لكن ما الذي ستحدثه هذه الجملة الشعرية في مخيلة شخص آخر أعمى غير البردوني، حتى ولو لم يكن شاعرا، ما هي المعايير الخيالية التي ستعمل في مخيلة هذا الشخص؟ لكي يفهمها أو يحسها إحساسا فنيا..! هل سيتخيل هذه اللقطة كما نتخيلها نحن أو كما تخيلها البردوني؟!
وإذا افترضنا أن لدينا شخصا ثالثا غير البردوني وغير ذلك الأعمى الذي أجرينا عليه تجربة الخيال في هذا البيت، لكن هذا الشخص الثالث أصم، فكيف سيتخيل جملة: ''تمطر الجدران صمتا وكآبة''.. كيف سيتخيل الصمت وهو أصم؟ أصلا نحن إزاء مفهوم تجريدي غاية في الدقة ليس له علاقة بحواس المادة، وعلينا أن ندرك أن الشعر لا يجب أن يفهم بغير حواس القصيدة.
هنا قد نكون توصلنا إلى أن للقصيدة حواس، لكن يجب أن نعرف أنها حواس متخلقة تخلقا متجددا مستمرا، مفتوح العدد، ولا يصح أن نسقط عليها توقعاتنا المشخصة، لأن العالم التجريدي له توقعاته، والتي لا يمكن أن ندرك أبعادها إلا بالفؤاد، ''إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا''، هذا يحيلنا إلى تقصي مفهوم القرآن، لا الفؤاد في كل أبعاده التأويلية.
مفهوم الفؤاد سيحيلنا إلى كنهه من خلال موضوعين الأول في الآية التي ذكرناها سابقا: ''إن السمع والبصر والفؤاد..''. وفي الآية الثانية: ''ما كذب الفؤاد ما رأى''.. الأول مرتبط بتحمل الإنسان المسؤولية والثاني مرتبط بقول الصدق في نقل ما رأى، إذن فمفهوم الفؤاد أمر مرهون بوثيقة مسؤولة عليها رقيب من جهة، ومن جهة متعلق بما يشبه جهاز كشف الكذب، إلا أنه بيولوجي.
قد يظن أننا خرجنا عن موضوعنا من دائرة الفن والجمال إلى دائرة ''رقيب وعتيد''، ولكنا فقط سنأخذ العبرة من استنادنا لهذه الأدلة النصية المقدسة، ولا ضرورة لتصور مشهد يوم القيامة. والعبرة هي مدى الحساسية والدقة في التقاط الأثر الجمالي بمثالية قابلة أو غير قابلة للتصديق، وكأنه وحي من نوع مناسب لا كصرصرة الجرس ولا كوجه دحية الكلبي، فما لم نقبلها قيمة تصورية على الوحي لا نقبلها حتى على الشعر، ولكن نريد قيمة صورة الوحي الشعري، بعيداً عن المقاييس المادية ولا الطوطمية، فالشعر معنى جمالي صادر عن الروح، وإلا اعتبرنا الصورة الشعرية ذبذبة أو جسيما أو رنينا سمعيا أو عبقا ينثل في الأنف.
عصر الصورة اليوم بعناصرها السرعة والإثارة واللون هذه الخصائص التي مخضتها التكنولوجيا لم تفرق عنها خصائص الصورة كثيرا في عصر تقنية المعلقات فالتصوير لدى امرئ القيس في قوله:
«غدائره مستشزرات إلى العلا
تضل العقاص في مثنى ومرسل»
لا يكاد يختلف عن عناصر التصوير التكنولوجي، وحتى في حالة تطور تكنو الصورة الشعرية لديه:
«ترى بعر الصيران في عرصاتها
وقيعانها وكأنه حب فلفل»
وبالمثل طرفة بن العبد:
«يشق حباب الماء حيزومها بها
كما قسم الترب المفايل باليد»
وسارت تكنكة الصورة الشعرية بصورة مثالية متصاعدة ومتوازية مع تطور أساليب التفكير لدى المجتمع العربي، فدخل التشبيه وأدواته وانتقلت الصورة بعدئذ من حيز الوصف إلى دائرة الاستعارة، ومن ثم وصلت إلى أطوار أحدث تبعا لآليات لسانية أكثر تعقيدا ودقة منها المجاز، وأسهم القرآن بشكل كبير في تشكيل العقل التصوري الإنساني، فتصويره الغيبيات التي لم يرها الإنسان كالحور العين كاللؤلؤ المكنون وقاصرات الطرف في الجنة وشجرة الزقوم في جهنم كأنها رؤوس الشياطين وشرر اللهب كالقصر. هذا كله أسهم في نقلة نوعية كبيرة للعقل الشعري من حالة اللون والحواس إلى حالات التجريد. هذه التكنكة اللسانية وصلت إلى أوجها في عصر التأويل ونشوء علم الكلام، وفي العصر العباسي لدى أبي تمام فالمتنبي:
«على قلق كأن الريح تحتي
أوجهها يمينا أو شمالا»
في صورة أقرب للخيال العلمي ويشعرك أنه يضع تصورا للطائرة التي سيركبها البردوني بعده بألف عام، والتي سيستقبل بها أبا تمام في مهرجانه:
«حبيب وافيت من صنعاء يحملني
نسر وخلف ضلوعي يلهث العرب»
وكأنه يقول له أنا جئتك راكبا الطيارة التي ابتكر هيكلها مجايلك أبو الطيب المتنبي.
الصورة عند محمد العابد خيالية إلى حد علمي وعلمية إلى حد خيالي بما يجمع بين النظرة الشعرية للوجود والنظرة الوجودية للعلم:
«في نافذة الهواء
حلم غامض
يسد الأفق الموازي إلى نصفين
من ساعة الصفر
على نحو تفكك ما بين جهات
تلتصق بنفسها عن بعد يحط عصفور»
فللرقم قيمة عالية في درب الحرف، وللحرف فاعلية عالية في مجال الرقم، وإن كان صفرا، ومثلها رؤية فلسفة شعرية، لكن في هذه المرة من مقام الحرف:
«النون.. حرف عظيم
يسيء إليه البعض
عندما يضعونه
بين ألِفين»
وفي هذه قدرة عالية على التحكم بموازين التجريد وصياغة المعنى النفسي لحالة تضخم الأنا عند البعض وبما يعالج ظاهرة اجتماعية وفردية ملتهبة تكاد تأكل أخضر المكارم، هو هنا يسرج المعنى في فتيل اللفظ لكن برؤية شفافة مضيئة بمجرد العنوان، كهذا الغائب الذي يشير إلى حاضر بقدرة عجيبة.
الصفر أيضاً له صولته وجولته العرفانية في مخيال صلاح الدكاك:
''أنا صفر لاذ بالواحد
فما أكثرني به وحيدا''
هذا النص المكون من ثمان كلمات في سطرين لصلاح الدكاك قصيدة مكتملة الأركان، تختزل معاني لا يدرك أبعادها إلا كتاب، ومحاور فهمه لا تحد، مبدأ الصفرية، ومبدأ الواحدية، ومبدأ الكثرة، ومبدأ القلة، وتماه مع الواحد إلا أنه المطلق وانمحاء الصفر إلا أنه عدد.
أنا صفر.. الأنا حين تفنى في الواحد.. لا يمكن إلا أن تكون صفرا، لكن ذات قيمة عالية بالمعنى اللاهوتي الذي يمكننا من الاستئناس بإثارة الصورة المطلقة في الوعي المتوله بالمطلق، مثل نوم لحظة فيها رؤيا زمن.. إذ العددية بحضوره فيض، والصفرية في حضرته اكتمال، فأنت بدونه افتراض ومعه اقتراض.
* نقلا عن : لا ميديا