قد يكون للكتابات المهتمة بدراسة النصوص الأدبية أثر على أساليب المبدع ومسارات الإبداع.. وأنهم ينتجون نصوصا متغيرة مضمونا وشكلا تبعا أو وفقا لاهتمامات النقاد والكتاب والقراء.. ومن ضمنها الدراسات المتخصصة في صدر النص والنص القصير.. فيحدث التأثر في إنتاج نصوص قصيرة كقصائد النثر القصيرة والقصيرة جدا والومضة.
وعلى هذا المجاز يمكن اعتبار الومضات كخدائج شعرية أو ولادات شعرية سباعية مكتملة البنى. في ظل الثلاثي (المبدع والنص والمتلقي)، قد تكون الومضة رأسا لنص أو نصا لرأس بما فيها من الشعرية المكثفة.. ولكن يمكن النظر إليها كخلية جمالية حية مزروعة من نص حي مكتظ بالجمال.. لا تلبث أن تصير جسدا جماليا مستقلا مكتظا بالشعرية... من خلال القراءة التفاعلية وما يحدث لها من خلال التفاعلات القرائية.. التفاعلات التي ينتج عنها فيض جمالي لا يكمل معنى النص إلا به.. أفق التوقع.. وملء الفجوة.. اكتمال النص/ فيض القارئ.. كذلك ما يحدث في النص من إضافة عن نص سابق/ تناص.. وهذا وذاك يقعان ضمن مظاهر التلقي.. ولكل تفاعل فيض إبداعي.. فتفاعل الشاعر مع النص يعطي فيض الخلق/ تناص.. وتفاعل القارئ مع النص يعطي فيض المعنى/ توقع. ومع أني أحاول الاستناد على ذاتي في معظم تحليلاتي وفي الحالة القصوى الرجوع إلى النص القرآني كأساس لكل أساس معرفي، فالملاحظ أن التفاعل مع النص القرآني بصورة تكاملية هو عين المقصد القرآني في اشتراطه الإنصات/ الإنصاص، برؤية خاصة، «وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا».. أراهما رديفين لمعنى هو التأمل والاستكشاف والتكامل مع النص وبالأدق التفاعل الذي من شأنه إحداث طفرات جماليــــــة إبداعية ممتدة.. ولا أخصص هنا التنـــاص.. وفقط إشارة مفاهيميـــــة لحيثيــــــــة تناصية قرآنية وإلا فإن في قصة الغراب الذي بعثه الله يبحث في الأرض ليري ابن آدم كيف يواري سوأة أخيه.. منطقا راقيا لمعرفة مفهوم التناص على وجه التطبيق.
ثمة مشتركات بين نص «الحال» ونص الومضة أو الـ»هايكو».. منها: آنيتهما أو أن كليهما وليد لحظة.. ومنها أيضا تناولهما تفاصيل الحياة اليومية.. وبهذا نستطيع استنباط مفهوم شعري جديد من شأنه جعل «الحال» مستساغا لدى نخبة الكتابة الجديدة.. مع كونه يحمل مقومات الشعر الجديد.. وإن كان جنسا أدبيا قديما.. فيكون لدينا «هايكو شعبي» من طراز شعري عال يرقى بمقوماته المتطورة بملازمته قضايا مجتمعه إلى مصاف الأجناس الشعرية العالمية.. لكي يؤكد بأصالته قدرته على ملامسة كل أصالات الشعوب.
ينطبق ذلك على القصة القصيرة جدا جدا والتي تشبه إلى حد كبير قصيدة الومضة.. وعلى كل الأجناس الأدبية.. وإنما ذكرنا الومضة مع كونها منزوعة العروض وعوضا عن ذلك النزع اعتبر الخيال وغيره مما يميز الومضة موسيقى مجردة.. يمكن التفاوض معها بواسطة الذائقة الشعرية.. ذكرناها كفن جديد منتشر وذكرنا معها صدر «الحال» لكثرة ترداد المطلع مع كل شطر كعادة فن الإنشاد.. مع كونه موزونا وذا قفلين أقصد قافيتين مختلفتين.. في صدر كل بيت وعجزه.. ذكرناه لأنه يحاكي الذائقة الشعبية الثائرة وتطلعاتها للحرية في العالم مع اختلاف لغاتها وثقافاتها.. لحقيقة مسلمة هي أن الثورة صوت الألم في الإنسانية كلها.. ويفهم من دون ترجمان.. لكن المباشرة في أي جنس أدبي بما فيه القصة القصيرة جدا جدا هي الخيط الذي ينتظمها جميعا.. على أن المباشرة هي أصل انتشار كل منها مع تحفظنا على مفهومنا للمباشرة الآن.
من الممكن أن نلمس تفاعلا بين الأجناس الأدبية المذكورة وإلا أثرناه في حالة عدم وجود تفاعل في المشهد الأدبي بين الأجناس المذكورة آنفا... الومضة والقصة القصيرة جدا ومطلع «الحال».. كممثل عن الشعر الشعبي.. وعلى اعتبار أن الحال نوع شعري شعبي يمني وإلا فقصيدة الحال/ الزامل لا تكون زاملا إلا في حالة إنشادها أي أنها فعل شعري وإنشادي في آن واحد. كما أن الحال لا يطلق عليه اسم حال إلا في حالة إنشائه لحظة وقوع الموقف الذي أثار الشاعر.. ومع أنا رأينا مشتركات بينها أي الأجناس الأدبية.. لكن قد تكون تلك المشتركات ناشئة عن غير تفاعل.. أي بتصنع. الومضة والقصة القصيرة جدا ومطلع الزامل/ الحال أو حتى الموشح.. في ما بينها.. كانت ضمن ما عرضناه من عينات مهمة. والأرجح أن ثمة تفاعلا خفيا أو غير مدرك.. والسبب ندرة الوسائل المفترض أنها منوط بها إيصال وتوسيع دائرة الإقبال عليها.
ومع ذلك فقد تأتي مجموع الومضات الشعرية التي ينتجها الشاعر في فترات ما.. وإن كان إنتاجها متصلا أو متقطعا.. ككيان شعري مكتمل ومترابط على اعتباره صادرا عن وعي فردي/ الشاعر، أو عن عقل كلي/ المشهد.. ويمكن للدارس عمل قراءة موضوعية لمجموع نصوص الومضة لشاعر.. أو مجموع نصوص الومضة لشعراء المشهد.
فتفاصيل الحياة اليومية والتقاطات الهامش تجدها عند مهدي مفلح مثل قوله:
«ولا جاء الحدث فزيت دغري بغمضة عين
أسابق فصوله قبلما الوقت يسبقني
وربعي يقولوا يا ولي جر لك غصنين
وانا اقول يا الهاجس بالابيات بردقني»
لكن الومضة لدى الشاعرة التونسية مريم الشابي تحضر كأجلى تسجيل للحظة الشعرية:
«عمري
مضى ومضةً
وغيابكَ
معلقة درويش»
«وأنا أتابع نشرة الأخبار..
لم أنتظر إلا مرورك
لأدرك أن السلام انبجس»
وفي مقاربة لمدى التفاعل الأجناسي لدى مريم الشابي تجد فارقا ضوئيا دقيقا بين الومضة والقصة القصيرة جدا في هذه «الومصة»:
«تحرك الماء، أمطرت غيمة
هم لا ينامون»
هذه إطلالة سريعة على أدبها وسأحاول أن أكمل قراءاتي حول نصوصها في العدد القادم..
اليمن نور
في اليمن
ينام البنيان قائما
ويصبح منفوشا متناثرا
توءد أعمدة الكهرباء
ويطمس نورها
ويقطع نفس الماء
التائه في مسارب الخراب
في اليمن
كما كل أشقائه
تنام الإنسانية جمعاء
في اليمن
ينفثون الرماد
في عين السماء
فتنام في كبدها محتدمة
في اليمن
تخفق الثياب أعلاما حمراء
أعلاما تزهر دماء
لا ينام اليمن بعدها
في اليمن
نور لا يخبو أبدا
تمطر.. تمطر..
شهداء.. شهداء.
* نقلا عن : لا ميديا