{الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ }هود1
على الرغم من تطور البشرية عبر العصور على صعيد العلم والادراك والوعي وغير ذلك، إلا أن القرآن الكريم قد أنزله الله تبارك وتعالى لكل الناس وفي كل العصور. وهذه الحقيقة الساطعة تعتبر معجزة من معاجز القرآن الكبرى، حيث أن من طبيعته مخاطبة كل إنسان، مهما تفاوت مستوى استيعابه واختلف زمانه, لأن القرآن كتاب فيه ظاهر وباطن، ولباطنه بطون وكلما تضاعف علم المرء ومعرفته، كلما تعمق في القرآن أكثر.
ففي الوقت الذي يفهم الإنسان الساذج البسيط من النص القرآني شيئاً ومعنىً معيناً، نجد العالم والمثقف يفهم شيئاً مضافاً إلى ذلك وهكذا تتفاوت درجات الاستنباط حسب مستويات الناس، بل حتى لو كان الإنسان عالماً، أو كان في مستوى الإمام الرضا عليه السلام، وهو عالم آل محمد، وهو الذي علمه من علم الله سبحانه وتعالى؛ حتى لو كان كذلك، فإن الله يفتح له كل يوم باباً من علوم القرآن. وهذا المعنى قد صرح به الإمام الرضا عليه السلام نفسه في حديث شريف له.
إن القرآن الكريم الذي فيه المحكم والمتشابه ، يتحول متشابهه إلى محكم بالنسبة لمن توصل إليه، وما لم يتوصل إليه يظل متشابهاً بالنسبة له أيضاً.
ولهذا كانت قاعدة العمل بالمحكم والتسليم للمتشابه قاعدة مهمة للغاية في إطار التعامل مع القرآن، إذ أن المتتبع للآيات القرآنية كلما عمل بالمحكم وسار فيه شوطاً، كلما اُحكم له المتشابه، وتيسر له فهمه ووعيه، أي أن كتاب الله يوضح نفسه بنفسه.
ومن هذه الزاوية، كان القرآن كتاباً لكل الناس ولكل العصور والدهور، وكل فرد منهم يستفيد منه حسب مستواه وموقعه؛ تماماً كما الغيث ينزل من السماء، حيث تسيل منه الأودية بقدرها، فالوادي الواحد يستوعب بقدره هو لا بقدر الغيث، الذي يستطيع استيعاب كل الامكنة.
لما كان القرآن الكريم كتاباً ذا مرونةٍ فائقة، فإنه قد سلب من الإنسان أعذاره الواهية التي قد يرفع عقيرته بها فيهجر القرآن بداعي عدم فهمه له مثلاً، أو إيكال ذلك للعلماء والمفسرين والمثقفين فقط.
كلاً. فالقرآن كتاب الجميع، نازل من عند خالق الجميع. ويبقى من لم يفهم هذا النص القرآني أو ذاك ملزماً بإرجاعه إلى أهل الذكر من العلماء والمختصين فهم وكلاء الله على شرح كتابه للآخرين. وهذا الأُسلوب يمثل منهجاً رائعاً قد أمر به القرآن قبل غيره، لأنه كفيل بحفظ منزلته الربانية من جهة، وكفيل أيضاً بتعميم الفائدة على الجميع من جهة أُخرى فيكون عبر ذلك كما النهر ، يغرف الناس منه حسب حاجاتهم ومقدار ما يستوعبونه، دون أن يعني أن ذلك النهر يمكن اختصاره في إنسان واحد منهم، ودون أن يعني أن هذا الإنسان غير قادر على الاستفادة من النهر شيئاً.
القرآن منهاج عمل
بمجرد أن يشتري الإنسان بضاعة معينة فإنه يطالب ويبحث عن كتابٍ يشرح له بالتفصيل الكافي كيفية الاستفادة أو تشغيل هذه البضاعة والمحافظة عليها.
أمّا الله العليم الحكيم حينما خلق الوجود والحياة فقد أرسل للناس كتاباً مباركاً، علمهم فيه كيفية التعامل مع الوجود والحياة، وشرح لهم فيه سنن الحياة وسبل السلام فيها، وقد سمّى هذا الكتاب بالقرآن.
فالقرآن هو كتاب الله المكتوب والمقروء، والخليقة كلها عبارة عن كتاب الله المخلوق والكتابان ينطبقان على بعضهما كل الإنطباق.
فمن أراد معرفة الحياة والطبيعة، يجدر به أن يقرأ القرآن ويستضيء به.
أما الذين يقرؤون القرآن وراء الأبواب المغلقة، دونما ينظرون إلى ما يحيط بهم، فإنهم عاجزون عن الاستفادة من هذا القرآن.
والذين يخوضون في الطبيعة والحياة لمعرفتها وفهمها من دون كتاب وهدىً ودليل وبصيرة قرآنية، فهم بدورهم لن يعرفوها.
إنما يعرف الحياة من يقرأها ويمارسها ويعايشها ضمن كتاب الله الذي لا يضل ولا ينسى، كتاب فيه تفصيل كل شيء بما للكلمة من معنىً.
فإذا أراد الإنسان أن يعيش في الحياة بنور، فليستنر بالقرآن، ولينظر ما هو قائل له ، فإن فيه الشرح الوافي لطبيعة الإنسان والمجتمع وتطورات الحياة، وفيه الإجابات الوافية عن نواميس الكون والهدف من خلقته، وفيه أيضاً الإجابة عن السر وراء تطورات الأمم والحضارات وعلل دمارها.. كل ذلك يجده الإنسان في القرآن، وما عليه -والحال هذه- إلا أن يطبق الآيات تطبيقاً صحيحاً على الطبيعة.
ولا يغيب عنا أن القرآن كما الشمس إن تشرق على كل يوم جديد. لذا نجد إن القرآن لم ينزل على إنسان دون غيره، أو أمة دون سواها، بل أنزله الله للبشرية كافة، وهو يجري فيمن يأتي كما جرى فيمن مضى.
فلنقرأ القرآن ولنطّبق آياته على أنفسنا وعلى الناس والحوادث والمشاكل والحالات النفسية، حتى نعرف القرآن بشكل أفضل، وحتى نعرف الحياة بصورة أدق.
وقراءة القرآن دونما تطبيق، أو ممارسة الحياة دونما قرآن، ليس إلاّ هجراً للقرآن، وليس إلا تضييعاً للحياة.
القرآن كتاب حكمة
من صفات القرآن الكريم انه كتاب حكمة، ولذلك جاءت تسميته بـ (القرآن الحكيم)، لأن فيه حكمة الحياة.
فالإنسان الذي يريد أن يضمن السعادة في الدنيا والآخرة لابد ان يتمتع بالحكمة؛ أي أن يعرف كيف يعيش ومن أين جاء وإلى أين يذهب وما هي سنن الحياة التي تعني القوانين والأنظمة التي وضعها الله تبارك وتعالى لهذه الحياة والتي من خلالها يستطيع الإنسان أن يعيش الحياة الطيبة. ولذلك فقد أوضح القرآن الحكيم سنن الحياة، وهي الحقائق الكبرى التي ليس من السهل على الإنسان أن يستوعبها، لأن عقله وفكره محدودان. ثم أن جميع الناس ليسوا على مستوى واحد من الوعي والفهم، بل هم على درجات ومستويات مختلفة لذلك فإن من العجيب أن كل الناس -على اختلاف مستوياتهم الفكرية- ينتفعون من القرآن كل حسب مستواه.
فتجد في القمة رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام يقرؤون القرآن، ويزدادون بقراءته علماً، بينما أبسط الناس أيضاً ينتفع بتلاوته القرآن بحدوده.
والسّر في تلك الشمولية، الأمثال التي يكثر ذكرها في القرآن، والتي تقوم بدور الوسيط بين الحقائق الكبرى والحقائق الجزئية، أي إنها تكون جسراً بين الإنسان وبين الحقائق ولذلك فلابد لمن يقرا القرآن ويتدبر في آياته أن يتأمل تلك الأمثال ، ثم يطبقها على الحقائق المتعلقة بها.
ولا يغيب عنا أن الامثال تقوم بدور ايضاح الحقيقة، وتقريبها للفهم، وبالتالي عدم نسيانها.
ومن خلال فهم الأمثلة القرآنية، وفهم الحقائق المتصلة بها يستطيع الإنسان ان يكون حكيماً، (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)….
..
القرآن سبيل الهداية
(قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهِا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)
يبدأ ابن آدم حياته عديم التجربة، ويعيش فيها ظلمات الجهل والغفلة، إذ العمر قصير وغيب الحياة أكثر من شهودها فهي مزيج معقّد قائم على أُسس لا يعرف المرء الكثير منها.
ووفقاً لذلك، أصبح ابن آدم بحاجة إلى من يهديه إلى سنن الحياة وطبيعتها وأنظمتها التي تتحكم فيه وفي الخلائق من حوله، وبحاجة أيضاً إلى من يعلمه كيفية التعامل مع النفس والمحيط والآخرين.
أن القرآن هو ذلك الهدى والمعلم والنور والبصيرة ومنهج التفكير السليم، وهو المعرفة والحقيقة. صحيح أن الناس ومن دون استثارة عقولهم، ومن دون بلورة وجدانهم ، ومن دون أدائهم ميثاقهم، وبالتالي من دون تفعيل اجهزة الرؤية والمعرفة في انفسهم، يعجزون عن الاستفادة من القرآن ولكن الصحيح أيضاً ان من دون القرآن وهداه وبصائره وعلمه وتذكرته وتزكيته، عاجزون عن الاهتداء سبيلاً.
يقول الكتاب المجيد : (قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَبِّكُمْ( أي ما يعرف ابن آدم كيفية الحياة السعيدة وكيفية العيش بسلام وأمن، لتحقيق التطلعات والطموحات.
فالبصيرة هي ما يبصر به الإنسان، وما به يعبر إلى الحقيقة.. (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِه(ِ إن هذه البصائر ليست مفروضة عليك، وإنما هي فرصة لك فإذا اردتها استطعت الاستفادة منها، واعتمادها منهجاً لحياتك.
إذن ؛ فهي كلها فائدة للإنسان ذاته قبل غيره.
(وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهِا) إذ النتائج العكسية سوف تترتب على من اعرض عن البصر والبصيرة ثم إن الله أو رسوله ليسا مسؤولين عما يختاره الإنسان لنفسه، وإنما المسؤول الأول والأخير هو الإنسان نفسه، حيث يقول تعالى: (وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بوكيل).
فهذا القرآن وهذه بصائره ومعارفه متاحة للناس في كل وقت وفي كل مكان لينتهجوا مناهجه، ويستفيدوا من رؤاه وليكشفوا بها غيب الحياة، ويصلوا إلى السعادة في دنياهم وآخرتهم وليس عليهم من وكيل فيما يختارونه.
القرآن يهدي للتي هي أقوم
( إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ اَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً )).. من يعش في الظلام يعجز عن أن يحلم بالنور، ومن يضطر نفسه إلى العيش في الحفر فإنه لا يفهم أي معنىً للقمم.
إن هذه الحياة التي نعيشها ليست هي الحياة الحقيقية، إذ الحياة التي أراد الله لنا أطيب بكثير وأسمى بكثير، ولكننا تعودنا على الاستمرار في هذا العذاب، واستطبنا الظلام والعيش في المآسي والآلام.
لقد بشرنا الله سبحانه وتعالى بحياة فاضلة وكريمة، حياة ملؤها الخير والمعروف والأمل والرحمة والبركة… فيا ترى أين تلك الحياة، وما هي الفاصلة التي تبعدنا عنها، وكيف نقطع ونلغي هذه الفاصلة؟
قبل كل شيء لابد من معرفة أن الله تبارك اسمه قد خلق الناس ليرحمهم، وليعيشوا سعداء في الدنيا فائزين في الآخرة. وما هذا الفساد الذي نجده قد ملأ الأرض بالتأكيد ليس من الله عز وجل، إذ أن الله الخالق قد قال عن نفسه: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ( كما قال أيضاً: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسَِ( فهذا الفساد العريض المستشري في كل بعدٍ من أبعاد حياتنا، إنما هو بسبب انحرافنا وابتعادنا عن جادة الحق وعن الصراط المستقيم الذي هو طريق الله.
وليس أمامنا -في إطار العودة الى ذلك الطريق الحق- سوى الاهتداء بهدي القرآن الكريم، الذي هو الحبل المتصل بين السماء والارض، وهو الوسيلة بين خالق السماوات والأرض رب العالمين وبين عباده المخلوقين.
إن الاصل في مشاكلنا وأزماتنا يتلخص في أمرين أساسيين: هما الانحراف الفكري، والانحراف السلوكي والقرآن الكريم إنما أنزله الخالق تعالى، ليعالج هذين الانحرافين الأخطرين.
أما الانحراف والضلالة الفكرية فيعالجه الكتاب الكريم بنوره وهداه وحكمته وضيائه، إذ هو الفرقان الذي يمكن به التمييز بين الحق والباطل.
إننا اليوم نتعرض لهجمات ثقافية شرسة متنوعة، حيث لا نكاد نتخلص من هجمة شيطانية إلاّ وتواجهنا هجمات جديدة أخرى ونحن بين هذه وتلك نتعرض للأمواج المتلاحقة من الإعلام الغربي المادي؛ الإعلام الذي يهدف قطع جذورنا وتحويلنا عبيداً لأصحاب المال والقوة الذين هيمنوا على مقدرات الأرض بالباطل.
وهذه الثقافة المادية، وهذا الإعلام المسموم الذي يأتينا كقطع الليل المظلم، يضغط على أفكارنا وثقافتنا، فلا يسمح لنا بالتفكير المستقل. ذلك لأنه يُصدّر لنا قوياً متلاحقاً مزخرفاً، مزوداً بآخر التقنيات وأحدث الخبرات الشيطانية، لغرض أداء مهمته في التأثير فينا، سالباً منا -كما هو طابعه المقيت- كل عقلانية وحقانية، باعتباره مجرد مصالح وأهواء وأفكار منمقة.
ومن خلال الرؤى القرآنية نستطيع رؤية الحياة والنظر إلى مافيها من حوادث ومتغيرات، ومن خلال فرقان ربنا نميز بين الحق والباطل، فقد نستمع الى نشرةٍ خبرية، أو نشاهد برنامجاً تليفزيونياً، أو نجلس إلى صفحة انترنيت، أو نقرأ صحيفة أو كتاباً، ولكن ما يهدينا إلى الحق من ذلك هو العقل الرشيد المؤيد بنور القرآن الكريم وبصائره وهداه وضيائه وموازينه وفرقانه، نظراً الى أن كتاب الله من شأنه أن يعطي القيم الصحيحة، والميزان الحق الذي يطرد ويزهق الباطل، فيعرفنا العدل والحق، ويكرّه لنا الظلم والباطل.
أما الانحراف السلوكي والفساد الأخلاقي، وهو الأصل الثاني الذي ترجع إليه أزماتنا الحضارية والتاريخية، فهو الآخر لابد من معالجته عبر العودة إلى ما يلقيه علينا كتاب الله تبارك وتعالى من مسؤوليات.
قول: إن الجيل الصاعد في مجتمعنا المسلم عموماً يتعرض في الوقت الحاضر إلى ابشع المخططات الشيطانية ، ووسائل ذلك هي شبكات نشر الدعارة والمخدرات. ومع شبكات الدعارة تأتي ما تأتي من الامراض الجنسية الفتاكة، التي بدأت تنتشر انتشاراً لم نعهده من قبل، ومع شبكات الدعارة ايضاً يأتي تفكك الأُسرة ن وانتشار وتصاعد نسبة الطلاق، وهبوط معدلات الزواج، وسوء التربية وتحطيم الإنسان ككائن كريم علماً أن من يخطط لنشر الفساد في المجتمع المسلم يملك من وسائل الإغراء والخداع والمكر… في حين نجد أن الإنسان المستضعف في هذا المجتمع -كأن يكون شاباً في مقتبل العمر- يفتقر إلى الثقافة الرصينة والأرضية الإيمانية الكافية فتراه يتعرض لهذه الهجمة الأخلاقية الشرسة التي تفوق حجم قدرته وتحمله وركائز تصديه ومقاومته، فينهار شيئاً فشيئاً. ولكنه لن ينتهي من هذا الانهيار المخطط له سلفاً، إلاّ ويصاب بالأمراض -كأن تكون هذه الأمراض أمراضاً جنسية- ويبتلى أيضاً بانفصام الشخصية والعجز عن بناء الأسرة السليمة، ويسلب الثقة من الجميع.
ولنا أن نتساءل عن ذنب مثل هكذا إنسان، مزقته أنياب تلكم الشبكات؛ الشبكات الشيطانية التي تملك المال والعلاقات والإمكانات المادية المتنوعة، لتسويق ما تصبو إلى نشره. فيا ترى ماذا اعددنا لمقاومة هذه الشبكات، ولتحصين جيلنا الصاعد دون السقوط في أحضان الرذيلة والانحراف؟ أوَ لسنا مسؤولين عن تحقيق ذلك لأنفسنا ولأولادنا؟
والجواب على ذلك كله ليس سوى كلمة نعم؛ لابد من العودة إلى القرآن الكريم، وأن نعيده ليكون الحاكم المطلق حتى على تفاصيل حياتنا، لأنه الأمان والسلام والمتكأ الذي ينبغي الاعتماد عليه والحبل الذي يُتمسك به. ومن يملك القرآن لن ينهار أمام الدعايات والإغراءات بكافة أنواعها… إذ الحياة الطيبة الكريمة والمرفهة ليست هذه التي نعيشها مطلقاً، باعتبار أنها نتاج الفكر المنحرف والرغبة الشيطانية، في حين أن كتاب الله يأمرنا بغير ما نراه من ضياع وظلام وموت مموّه.
ثم إلى جانب القرآن هناك سفينة النجاة؛ أعني أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، الذين بهم ينطق كتاب الله ويُفسّر لأنهم -بصراحة بالغة- التجسيد العملي الأكمل للقرآن، فهم والقرآن صنوان كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” إني تارك فيكم الثقلين؛ ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض” (19) فمن دون التمسك بأهل البيت عليهم السلام لا يمكن التمسك بالقرآن، ومن دون الاهتداء بهدى أهل البيت عليهم السلام لا يمكن الاهتداء بالقرآن.
القرآن كتاب إنقاذ
( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ ءَاَْعْجَمِيٌّ وَعَرَبيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) (20)
يفاجأ المرء خلال حياته بمشاكل وصعوبات لم تكن في توقعاته وحساباته، وقد يصطدم ببعض الأزمات التي لا يعرف لها حلاً، فتتحداه بعضها وتقعده. هنالك يكون بمسيس الحاجة إلى بصيرة يتسلح بها لإنقاذ نفسه أو من يهمه أمرهم، ليتوصل إلى طرق الحل وسبل النجاة.
فمن أين تأتيه البصيرة المرجوّة؟
إنها تأتيه من كتاب خالقه الرؤوف الحنّان ولكن كيف؟!
إن الكثير من الناس يعرفون وجود الهدى والنور والبصائر في القرآن الحكيم، ويعرفون أن حلول مشاكلهم جميعاً بين دفتيه، ولكنهم عند المواجهة يعجزون عن استنباطها أو الاستفادة منها. فيا ترى هل ثمَّ طريق ووسيلة لحل هذه الأزمة الخطيرة؟
لجواب: إنما يكون ذلك بالمزيد من تلاوة القرآن، وربما أيضاً يتسنى بحفظ آياته حفظاً جيداً لأنك إذا حفظت آية من الكتاب، وواجهت مشكلة ما فإنها سترتسم أمامك وكأنها إضاءة وإشارة إلى الطريق الصحيح والحل الصائب. وقد وردت أحاديث كثيرة تؤكد أهمية واستحباب حفظ القرآن، منها ما روي عن علي بن الحسين عليه السلام: “عليك بالقرآن، فإن الله خلق الجنة بيده لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل ملاطها المسك، وترابها الزعفران ، وحصباءها اللؤلؤ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن فمن قرأ القرآن يقال له: اقرأ وارق، ومن دخل منهم الجنة لم يكن في الجنة أعلى درجة منه، ما خلا النبيون والصديقون” (21) حيث تتمايز الدرجات وتتفاضل المنازل، ويرى الإنسان أن بين درجة واُخرى من درجات الجنة مسيرة خمس مائة عام، او كما الفاصلة بين السماء والأرض فحينما يقرأ آية واحدة يرقأ درجة واحدة، ولك أن تتصور أن لو كنت حافظاً لكل القرآن، فكم درجة ستطويها في مسيرك إلى موقعك في الجنة الأبدية؟
بلى؛ إن قراءة القرآن المستمرة وحفظ آياته، يعتبران من أهم برامج حياة الإنسان، ولا سيما بالنسبة إلى الشبيبة والأشبال والأطفال. وإني لأوصي نفسي وكافة الآباء بالاهتمام بتحفيظ الأولاد آيات القرآن منذ سنينهم المبكرة ، وحبذا لو بدأنا معهم من عامهم الثالث، حيث يشرعون في الاستيعاب. فما أحلى وأسمى أن تمتلئ ذاكرتهم بحكمة الله وقرآنه، ليدخروها لأوقات حاجاتهم.
أما الكبار؛ فما عليهم إلاّ أن يرتلوا آيات الذكر الحكيم باستمرار؛ أي في كل وقت وسعهم ذلك، وبالأخص في أوقات الصلاة وعند الفجر، فإن قرآن الفجر كان مشهوداً.
القرآن كتاب دعوة وانطلاق
كيف استطاع القرآن الكريم ان يحرك العرب الجاهليين في بدء نزوله ويصنع منهم أمة واحدة لا تغيب عن بلادها الشمس، فكانت أمة عظيمة مقتدرة؟ ولا اتصوّر أن أمة مثيلة لأمة الاسلام قد جاءت أو ستجيء بحجمها وبحجم حضارتها.
وهل نستطيع ونحن على أعتاب القرن الواحد والعشرين -حيث مضى على نزول كتاب الله حوالي خمسة عشر قرناً من الزمن -أن نجدد التجربة ونعود إلى تلك الأمجاد؟!
قبل كل شيء؛ لابد من التأكد من أن كتاب الله كتاب دعوة وانطلاق فالقرآن من شأنه أن يخلق في الإنسان قابلية التوسّع والنمو، فقد يصبح الإنسان الواحد لدى التزامه بتعاليم السماء أمة بمفرده، وفقاً لمدى تفجّر طاقاته وإعمال قدرته على العطاء.
يصنع القرآن كل ذلك بطرقٍ شتّى منها: أنه يفتح أمام أتباعه آفاقاً فكرية وروحية لا تعد ولا تحصى ، حيث يؤكد له أنه قد خُلق ليكون جليس الرب في مقعد صدقٍ، وليكون ضيفه المكرم في جنة عرضها السموات والأرض، وأنه إنما خلق ليكون سعيداً وسيداً وملكاً في الدنيا والآخرة. ومنها؛ أنه يوضح لهم ان أجلهم في الأرض محدود، وأن الفرصة المتاحة لديهم لا تعوّض، وأنه مسؤول عن التوفيق بين وجودهم في الحياة وبين الالتزام بتعاليم السماء، ليحققوا وليثبتوا جدارتهم في أنهم المخلوقين الأرقى من بين سائر المخلوقات.
وهكذا يفجر القرآن طاقات الإنسان حتى يصنع منه سيداً وملكاً في الدنيا والآخرة، ويصنع منه داعيةً إلى تطبيق آياته، وإلى شاهدٍ على عصره، وإلى إنسان متعدد الجوانب والآفاق، مقتدراً على الفتح والفوز.
وما حقق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله التقدم والتطور بين الأمم، هو تدبرهم في الآيات القرآنية حتى تفجرت طاقاتهم.
وعلى هذا فإن القرآن كتاب عمل وفاعلية، ودعوة وانطلاق ونحن إذا عدنا للقرآن عادت إلينا امجادنا وحضارتنا ومدينتنا وتفوقنا….
..
القرآن أساس النهضة
(إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ اَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَاَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (22)
بماذا نهضت الأمة الإسلامية لدى انطلاقتها الأولى؟ وكيف انهارت عروش الطغاة أمام ذلك المد الجارف؟!.
لا ريب أن قيادة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله كان لها الأثر الكبير جداً في ذلك، بل حتى أن سيرته الشريفة لا يزال يتلمسها المسلمون في الوقت الراهن.. فملاحم الإسلام الأولى التي حققتها القيادة النبوية، لا تزال ذات فائدة كبرى بالنسبة للنهضة الإسلامية على مرّ العصور.
ولكن أساس نهضة المسلمين -بما في ذلك قيادة الرسول وحكمته ودرايته وشجاعته- كان قائماً على حكمة القرآن الكريم.. فهو الذي يهدي للتي هي أقوم؛ بمعنى أنه يفتح أمام اتباعه ومحبيه الطريق القريب والمباشر والآمن نحو ما يريدون تحقيقه من غايات.
فهذه الآية المتقدمة الذكر من سورة الإسراء نزلت بعد استعراض حالة بني إسرائيل، حيث تناوبت فيهم وعليهم حالات التقدم والتراجع والصعود والهبوط ثم قال ربنا مخاطباً إياهم ومجمل أفراد البشرية: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأنفُسِكُمْ) (23)، ثم بعد ذلك جاءت الآية القائلة: (إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْومَُ)..
فكيف نحسن لأنفسنا، ونعلوا وننهض بالقرآن الكريم؟.
يجد المؤمن بالكتاب المجيد أن فيه خبر من كان قبله، وفيه الحكم والحكمة والقول الفصل، وفيه الحديث عن المستقبل، فيعرف أنه كتاب فتح ونهضة وانطلاق.
من قرأ القرآن ليعمل به ويحمل رايته، ويقتحم الصعاب ويتحدى المشاكل ويبلغ الذروة ويحقق الأهداف السامية؛ من قرأه على هذا الأساس وجد فيه بغيته وهدفه، حيث يتبين له الطريق الصحيح في وضوح مطلق، لأنه حينما يقرأه يجد في نفسه واقعين مثيرين، وهما:
الأول: أنه سيصبح مؤثراً على نفسه، ولو كان به خصاصة وحاجة فهو سيتعرف في كتاب الله على أهدافٍ أوسع بدرجات من أهداف الذات، وسيعرف أن الإيثار قطار التقدم ووسيلة النهضة الإنسانية.
الثاني: أنه سيعيش حالة الأمة الواحدة، والوحدة مع الآخرين؛ لأن الإنسان حينما يحرر نفسه من قيود زنزانتها، سينطلق في رحاب الأمة الواحدة، فتراه يتعلم في هذا الواقع الجديد الصفات المثلى كالحيوية والعطاء والإحسان والحركة الهادفة.
وإنما كان القرآن يهدي للتي هي أقوم، لأنه يبين لأتباعه السنن الإلهية، التي تحرضهم على التطلع والهدفية نحو الخير.. إذ أن ما يحويه القرآن من سنن إلهية من قبيل سنة العطاء والشهادة في سبيل الله والوحدة والتعاون على البر والتقوى، وسنّة النظم والعمل الدؤوب على أُسس واضحة، وسنة الاستقامة على الطريق.. كل ذلك فيه التحريض على العودة إلى الاصول التاريخية والاجتماعية والإنسانية الصحيحة. ولهذا كانت إرادة النهضة بحاجة إلى قراءة القرآن الكريم قراءة “جديدة”.
القرآن سبيلنا إلى الرقي
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ اُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرءُُوفٌ رَحِيمٌ) (24)
لقد جمعت رسالة الإسلام شتات أمة، فصنعت منها الحضارة الأقوى في العالم. فقد كان العرب قبل الإسلام يعيشون في مناطق متناثرة من أرض الجزيرة العربية وأطرافها، فحولهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في مدة قياسية جداً إلى أمة شاهدة على الناس بالقسط والعدل.
فالقرآن الكريم يفجر في الإنسان طاقاته، ويلملم شتات البشرية تحت راية واحدة، لا سيما وأنه كتاب حيٌّ ينبض بالفاعلية والروح إلى يوم القيامة.
فالله سبحانه وتعالى وعد الإنسان بالثواب وتوعّده بالعقاب؛ بمعنى أن الخالق المتعال لم يخلق الإنسان ليفنى، وأنه لم يجعل حدوده في الدنيا، إذ هذه الأخيرة ليست إلاّ وسيلة من وسائل بني البشر، ليرقوا بها إلى ما هو أعلى وأرقى.
وحينما يفتح القرآن مثل هذا الأفق الواسع أمام الإنسان، فإنه يبعث فيه الروح والعزم والإرادة، ثم إنه يدعوه إلى الجهاد، هذه الفريضة المقدسة التي لا تعني القتال فقط، بل هي تعني بذل المزيد من الجهد في كافة مناحي الحياة؛ فهي تعني الإنفاق والإحسان والعطاء والتغلب على هوى النفس ووساوس الشيطان. لغرض التحرر من الهوى الشرير وقيود الباطل.
ن المؤمنين -وعبر هذه البصيرة الإلهية- سيعلمون أن أمامهم آفاقاً واسعة وأن عليهم أن يبلغوها، ويعلمون أيضاً أن أجلهم محدود في هذه الدنيا، وبالتالي فإنهم سيضغطون على أنفسهم ما استطاعوا حتى يفجروا طاقاتهم المودعة فيهم من قبل الله فيصلوا إلى معدن الحكمة والتطور ورضا خالقهم عنهم.
إن الصفة الأساسية لاتباع القرآن تكمن في أنهم لا يسمحون لأن تكون أعمارهم ضحية أو هباءً، فتراهم لا يستسلمون للهواجس والوساوس واللهو واللعب وتفاهات الأُمور، وهم في تطلع دائم إلى الأسمى والارقى والأحسن من الوجود سواء على صعيد الدنيا أو الآخرة.
إن من الفلاسفة من دعا إلى أن يصنع الإنسان الطبيعة، ولكن كتاب الله دعا إلى أن يصوغ الإنسان نفسه صياغة جديدة،، وإلى أن يصنع الطبيعة من حوله. وبهذه الدعوة فقد سبق القرآن جميع المذاهب الفلسفية والفكرية والاجتماعية.
أما سبيل العودة إلى التاريخ التليد، فليس ثم خيار سوى العودة إلى سبب التقدم والعظمة، وهو القرآن الكريم وما يحويه من بصائر نورانية، فنتفتّح عليها ونستفيد منها ونصوغ أنفسنا كأفراد وشعوب ضمن ما رسمته لنا لكي نكون خير أُمة أُخرجت للناس، ولكي نكون شاهدين عليهم؛ أي لنكون المقياس الذي تقاس به الأمم من حولنا كما كان الرسول شهيداً علينا وقدوة ومقياساً لنا.
* نقلا عن : موقع أنصار الله