السياسة لها قوانين تقنية، من ضمنها أن يتم الدفع بمتخذي القرار إلى العمل باستمرار لإيجاد تسويات أولية مع الواقع، وهذا يجعلهم يقدمون قضايا على أخرى، انطلاقا من مستويات الضرورة الخاصة بكل قضية على حدة، ثم يضطر متخذ القرار أن يتجاهل قضايا خطيرة لعدم إمكانية حلها، حتى لو كان مقتنعا، إيمانيا ونظريا وعمليا، بعدالتها، ولو بقي كل مسؤولي الدولة ومتخذي القرار في هذا الاتجاه، فسوف يصيب منظومتهم الحاكمة الفشل الرسمي، وإصابة سلطاتهم التشريعية والتنفيذية والقضائية بالحماقة السياسية اللامحدودة، ومن هنا تبدأ درجات سلم صعود قطاع أصحاب المصالح والأطماع الشخصية للحكم، وساعتها سوف يفهم متخذ القرار عمليا أن هناك أولويات لا يصلح أن تكون لها أو فيها تسويات إطلاقا.
طبعا، بعض متخذي القرار عندما يصلون لفهم هذه الجزئية متأخرين جدا، يحاولون أن يصبغوا أنفسهم بصبغة الزاهدين والمؤمنين، وأحيانا هم كذلك فعلا؛ لكن هذه الصبغة هي قوة المنبوذ وفقير العدد والعُدة، وهنا يزداد الطين بلة؛ لأن كل المتسلقين وأصحاب المصالح والأطماع الذين صعدوا حولهم يرون أن مصالحهم وتحقيق مطامعهم مقدمة على الأخلاق والمبادئ والدين والإنسانية والسياسة، لهذا من الغباء الشديد، أن تساعد عدوك على إخفاء فساده بتسويات مع واقع قيامه بها؛ لأن ذلك يعني أنك تنشر فساده بزعم أنك ترفضه وتندد به، وأنت في الحقيقة تعمل على توسيع مساحة نشر الفساد وتوصيل خبرة الفاسد إلى من لم يعرفها بعد، لتبدأ عمليات الابتزاز الواسعة ضد كل متخذي القرار، مما يعني بعد حين أن متخذ القرار الحقيقي ليس أنت، بل القطاع المتسلق والانتهازي الذي أنت بنفسك داريت فساده ومصالحه وأطماعه وعملت معها تسويات خاصة بحجة مستويات الضرورة لديك.
ربما يبدو للوهلة الأولى أن الحالمين في التغيير لصالح متخذي القرار المأمونين وفي ظل ظروف العدوان والحصار مجرد مجانين، وفي أحسن الأحوال مجموعة من السُذّج والمبقبقين الذين لا يفهمون ما يحدث من تسويات على أرض الواقع؛ لكن في الحقيقة هذه نظرة متسرعة وسطحية بالأساس، وإذا أردنا أن نعرف لماذا، فعلينا أن نأخذ رأي الجهة الأخرى، رأي من يرون أنه لا فائدة ولا أمل في حدوث أي تغيير جاد يلغي سياسة التسويات مع الواقع، فماذا يقدم هؤلاء بهذه الواقعية الرثّة التي يتحدثون بها؟! وماذا يفعلون برصدهم للواقع هذا وإعلان صعوبته وعدم القدرة على تجاوزه ولو بعد العدوان أو بعد ألف عام؟! أليسوا أشبه بتجلط الدم في شريان التغيير، يعوقون حركة ونبض قلب المجتمع والدولة، في حين أوهموا متخذي القرار والمجتمع بأنهم بهذه التسويات هم أكثر الناس معرفة وإدراكا وإيمانا، بينما تسوياتهم وتصورهم الحقيقي للواقع ليس غير رصد يحسن واقع مصالحهم وأطماعهم، وحتى وإن كان رصدا مصيبا، بعد تغلغلهم لن يغير شيئا في أمر توسع وانتشار فساد مصالحهم وأطماعهم الشخصية.
أما إذا انتقلنا إلى جهة الحالمين، وأقصد هنا الواعين الذين يعرفون حقيقة الأمر على أرض الواقع لكنهم لا يستسلمون له ولا للوضع القائم وتسوياته السياسية وضروراتها العبثية، فإنهم يأملون في التغيير ويسعون نحوه دائما وأبدا، وإذا ضربهم التهميش والإحباط يستحضرون وعيهم وأخلاقهم ومشروعهم ودمجوها مع دروس التاريخ ليشحنوا أنفسهم نحو المستقبل الحر والمستقل الذي يرضي الله وينتصر لدماء الشهداء ويحقق الخير للشعب، أو حتى ليجعلوا مجتمعهم يرى كيف خرجت أمم وحضارات من قاع التخلف والجهل والاستبداد لتجلس على رأس الأمم. هؤلاء هم حُماة متخذي القرار والقيادة، وهم صانعوا المستقبل الذي فيه الخير للجميع. أما من يدعون الواقعية وتسوياتها السياسية فلن يفعلوا شيئا سوى تعطيل وعي وقيم ومشروع المسيرة في الغالب.
* نقلا عن : لا ميديا