أبرق وأرعد وانهمر عميماً ورحل كموسم غيث قصير أخصب في غضون عامين عقوداً من جدب التاريخ اليمني... الآن نسبر بفجيعة غيابه الباغت، مساحة حضوره الشاسعة التي انفسحت لآلام وآمال شعبنا كما لم يسبق أن انفسحت في حقبةٍ من حقب الحلم الوطني المديدة... الآن يعيد اليمنيون الشرفاء لصق أجزاء لوحة الكينونة الكاملة المتناثرة على امتداد تاريخ من الوثوب والتعثر فتتجلى ملامحه، ملامح الشهيد الرئيس صالح علي الصماد، ملامح مزاجها كل زاهٍ ونبيل ومشرق ووثيق الصلة بنواة الأرض وطينتها وعرق سواعد أبنائها المنسكب في رحم أشواقها للبزوغ...
بات لليمنيين -لأول مرة باستثناء زمن الحمدي- رئيس من أنفسهم عزيز عليه ما عنتوا طيلة عقود الاستلاب والوصاية، فتنفسوا هذه الحقيقة في ملامح الشهيد صالح الصماد، وفي حله وترحاله الدائبين متحسساً أوجاعهم ومواسياً ولافتاً أنظارهم خارج خندق الحصار النفسي والمادي إلى مستقبلٍ كريم حر مقتدر ممكن كنتاج مستحق لتضحياتهم التي لم تعد بورصة للمضاربات الموسمية الحزبية -كأمس الارتهان القريب- على شفير صناديق الاقتراع، وإنما أضحت تضحياتٍ واعية بأثمان الانعتاق والخلاص في مواجهة تحالف عدوان كوني تمظهرت للعيان عملياً نواياه النازية تجاه اليمن تراباً وبشراً وحضارة وتاريخاً، كما تمظهرت بجلاء وجوه عملائه التي تلطت لعقود خلف أقنعة ويافطات الوطنية والقومية والاشتراكية والإسلام، وأضحت الطبقات الشعبية على بصيرة بجوهر الصراع، ومستعدة كطرف أصيل فيه لسداد تلك الأثمان دون قسر أو جبرية سلطوية أو وطأة عوز آدمي قهري. وفي هذا المضمار جسَّد الشهيد الصماد بالنسبة لجماهير شعبنا الشريف التجلي الحي لمسار الانعتاق الشعبي المأمول، وبدا في يقين هذه الجماهير معادلاً موضوعياً لتطلعاتهم الوطنية الإنسانية النبيلة في أنقى حالاتها.
كغرة رمح شق الشهيد الرئيس صالح الصماد هيجاء التحديات الجسام بدءاً، فعَبّدَ وعورتها وروّض جموحها لجهة إمكانية المضي للأمام في زمن لا نظير له اختلاجاً بكل موجبات اليأس والتراجع والانكفاء والإذعان على مختلف محاور المواجهة مع العدو وعلى مستوى راهن مؤسسات الدولة المزري وراهن الجبهة السياسية الداخلية المفخخة بعبوات الكيد وقنابل الفتن الموقوتة والمثخنة برسوبيات حقب الوصاية والمكبلة بذهنيات الفيد والغنيمة والمحاصصة المشدودة بالقصور الذاتي لماضي الحكم بالإنابة عن الخارج وإملاءاته في شتى شؤون ومناحي الحياة.
خاض الشهيد الرئيس اختبار النار هذا بفدائية فذة أمكن معها لمن سيخلفه النفاذ قدماً وأن يمسك بدفة مركب إدارة البلد في خضم المواجهة بسلاسة وبحد أدنى من التبعات التي نهض الشهيد الصماد بأثقلها حملاً وأفدحها احتمالاً.
درجت دوائر التدوين الرسمي العربي على توصيف الرئيس والأمير والملك والزعيم بـ«رجل المرحلة» و«القائد الضرورة»... كما وتوصيف لحظة استلامه زمام الحكم بـ«المنعطف الأخطر» الذي جبن غيره عن النهوض بأمر الحكم خلاله تهيباً لتبعاته، بينما تصدى هو لهذه المهمة الجسيمة، لا طمعاً ولا مغنماً، بل افتداء لشعبه و... إلى آخر الديباجة المبتذلة الرتيبة...غير أن ثمة رئيساً عربياً اليوم كان للمرة الأولى رجل المرحلة بحق، وقائدها الضرورة باستحقاق، وفي منعطف يشهد العدو قبل الصديق بأنه الأخطر في تاريخ الحكم العربي وغير العربي على الإطلاق...
رئيس أوحد اسمه صالح علي الصماد، لا سابق له. على أن رحم يمن أيلول الثورة والصمود وبسالة المواجهة والوقوف الفذ المقتدر في وجه تحالف عدوان كوني، لايزال رحماً واعداً بولادات قيادية زعمائية (صمادية) عابرة لحدود التأثير في المحيطين الإقليمي والدولي الشاسع، وملهمة لشعبها وشعوب المنطقة والعالم صدقاً وطموحاً وفدائية بذل واقتحام لهيجاء التحديات، وثباتاً وصموداً وكبرياء وقفة مؤمنةٍ في وجه قوى الامبريالية والاستكبار، مجتمعةً في سبيل تحرير الذات الإنسانية المستضعفة والمقهورة من أصفاد التعبيد والتحقير والوصاية والاستلاب، والارتقاء بها من حظيرة الوجود بالتبعية لأمريكا إلى معراج الوجود بالأصالة عن تحديات الاستخلاف وتعمير الأرض كما يليق بآدمية كرمها الله وخلقها في أحسن تقويم.
لقد أوقع مسدس القرصنة الأمريكية نجمةً كانت من أزهى النجوم في سمائنا اليمنية، لكنه لم يسلب السارين بوصلة المسيرة اليمانية الخلاقة صوب الفجر اهتداءً بمجرة نجوم فوق قدرة أمريكا على كبح شلالات ضوئها التي ستغمر الجزيرة العربية وتجلو ظلام عالم القرصنة وكهنوت الأحادية القطبية للأبد.
إن هذه الكلمات ليست إلا بعض الحضور المستنير العميم للشهيد الرئيس صالح الصماد بين يدي عام من فاجعة غيابه... إنها اختلاج حزن، كما هي عنفوان عهد يجري لمستقر القيم التي جسدها الشهيد، ويدفق صوب تخوم المشروع البعيدة بلا فتور على قارعة الفجيعة ولا مكوث في قوقعة الحسرة وجلد الذات.
إعادة نشر
* نقلا عن : لا ميديا