أكثر ما تخشاه وتقلق منه دول العدوان على اليمن هو تقديم نموذج ناجح في صنعاء على أي مستوى من المستويات. هناك خوف من نجاح نموذج الدولة وفرض هيبتها، وتخوف من رسم صورة لليمن تتسم بالقوة والعظمة. يريد العدو أن تبقى صورة اليمنيين بحالة من الضعف والوهن وقلة الحيلة. ومن أبرز النقاط التي تركز عليها السعودية في اللقاءات التباحثية هو عدم الإعلان أن صنعاء انتصرت على دول العدوان، إذا تم الذهاب إلى توقيع أي اتفاقية سلام مع المملكة، بحسب ما أخبرني أحد القادة العسكريين الميدانيين أنه عقب اقتحام الجيش واللجان الشعبية لأحد المعسكرات السعودية الكبيرة في الداخل السعودي، بذلت المملكة وساطات كبيرة لعدم عرض مشاهد الاقتحام في الإعلام. لم تأبه المملكة لاقتحام أحد معسكراتها وقتل جنودها وفرار الناجين، بقدر خوفها من كسر هيبتها بعرض مشاهد النصر اليمني الذي وثقته حينها عدسات الإعلام الحربي.
هذه المخاوف تجعلنا نعيد النظر في استراتيجيتنا الإعلامية والسردية التي نقدمها بعد 8 سنوات من الانتصار على العدوان. صحيح أن جرائم التحالف في اليمن خلفت مآسي وأوجاعاً وآلاف الضحايا والجرحى وأضراراً كبيرة في الممتلكات الخاصة والعامة، وفقراً ومجاعة وأمراضاً، وكل هذا من نتائج وتداعيات الهمجية العدوانية التي استخدمتها أمريكا وأدواتها الخليجية في اليمن، وهي فاتورة طبيعية ستسددها كل الدول المتورطة بالعدوان على اليمن.
في سنوات العدوان الأولى كان من البديهي والضروري إظهار هذه المظلومية، لاستنهاض همم الأحرار وكسب التأييد الإنساني بدرجة أولى. وبعيداً عن الأنظمة المتواطئة مع دول التحالف، كانت الشعوب العربية والإسلامية وحتى الغربية متعاطفة إلى حد ما مع الإنسان اليمني في ما يتعرض له؛ غير أن معادلات الردع العسكرية التي فرضتها المؤسسة العسكرية اليمنية قدمت اليمني للعالم بصورة مختلفة؛ الذي كان يتضامن مع اليمن سابقاً رأفة وشفقة للضحايا والأشلاء والدموع والبكاء، في السنوات الأخيرة أصبح متضامناً مع القوة التي خرجت من بعد المعاناة لتلقن السعودية والإمارات دروساً في المواجهة العسكرية.
العالم الذي كان يسمع باسم اليمن يستحضر في ذهنه بكاء وعويل أطفال تمزق أحشاءهم المجاعة ويأكلون من أوراق الشجر، اليوم كلما سمع اسم اليمن استحضر "توشكا" و"قاهر" و"سعير" و"قاصم" و"بدر" و"ذو الفقار" ومُسيَّرات "صمّاد" و"قاصف" و"أبابيل"، التي دكت مطارات السعودية والإمارات وشركات النفط وحقولها وغيرت كل المعادلات.
تذكير العدو ومن تواطأ معه بما أصابنا جراء هذا العدوان، وإعداد القوائم والكشوفات والإحصائيات، أمر مهم ليبقى الجميع على اطلاع على ما فعلته هذه الحرب، لاسيما وأننا في زمن يقدم فيه أمراء الحرب وقادتها أنفسهم وسطاء، محاولين غسل أيديهم من دماء اليمنيين. ولكن الأهم هو التركيز على نقاط القوة وإبرازها، وتذكير العدو ومن معه بأن عودتهم إلى مربع المواجهة سيكون ثمنه أغلى بكثير مما سبق في ظل تعاظم القوة العسكرية وتطور التصنيع الحربي والإنجازات الكبيرة التي تحققت في هذا الجانب.
عندما كانت القنوات العالمية تتحدث عن المجاعة في اليمن وتظهر على شاشاتها ضحايا المجاعة وأرقام وإحصائيات المنظمات الدولية التي تتحدث عن أطفال اليمن، لم يكن ذلك تعاطفاً أو تضامناً، وإنما جزءاً من الدور المطلوب منها، لتقديم صورة نمطية عن يمن ضعيف فقير جائع مهزوم. وهذا الأسلوب سبق أن تم اتباعه في فلسطين، عندما رسمت صورة أطفال فلسطين بمشهد استهداف الشهيد محمد الدرة ووالده غير قادر على حمايته أمام سلاح "القوة الإسرائيلية"، وكلما ذكرت فلسطين لا يخطر ببالنا غير مشاهد الوجع والضعف، فيما لدى الشعب الفلسطيني مشاهد عزة وبطولة من أطفال الحجارة إلى صواريخ المقاومة. وكذلك خلال احتلال أمريكا للعراق قدم الشعب العراقي نماذج بطولية في استهداف الجيش الأمريكي وآلياته العسكرية؛ غير أن الصورة العالقة في أذهاننا هي نساء وأطفال أمام المدرعات الأمريكية ومشاهد مؤلمة لضحايا التعذيب في سجن "أبو غريب".
صناعة الصورة النمطية سلاح فتاك استخدمه تنظيم داعش التكفيري، الذي كان يصور العنف والذبح والسحل وحز الأعناق، وكلها خبرات أمريكية ساهمت فيها هوليوود لصناعة الرعب في نفوس الضحايا وهزيمتهم، مقابل صناعة صورة للقوة التي يمتلكها التنظيم الأمريكي "الإرهابي".
في اليمن فشلت السعودية وكل من وقف خلفها في هزيمة اليمنيين على كل المستويات، فلا يجوز أن نقدم لهم اليوم خدمة ليكونوا في موقف القوي؛ رغم أن ما فعلوه ونتائج عدوانهم لا تمت للقوة بصلة، فقتل الأطفال والنساء وتدمير المنشآت السكنية والصحية والتعليمية والخدمية هي ضعف وهزيمة. إلا أن ثمة إحصائيات توجعهم أكثر من غيرها، تذكيرهم بحجم خسائرهم في اليمن ومعسكراتهم التي فقدوا السيطرة عليها وأسْر جنودهم واغتنام أسلحتهم التي تركوها خلفهم... هي بمثابة كابوس سيبقى في ذاكرة السعوديين كلما تذكروا تورطهم بالعدوان على اليمن.
* نقلا عن : لا ميديا