(1)
لا بد أن يأتي الشعر موزونا بدرجة أساسية مع تأكيدنا على أن ما يأتي من قول خارج قواعد النظم العروضية.. ليس نقيض الشعر تماما... لكن قد يكون هناك قول غير موزون فيه شعرية... في حين أن الشعرية لا تعني الشعر.. لأن في نصوص القرآن والحديث والخطبة والابتهالات شعرية عالية... والمهم أن الشعر غير الشعرية وهو کذلك غير الشاعرية.. فالشاعرية يمكن أن يوصف بها المكان في تقاطعه مع الوقت والأشخاص مثلا.. كما أن الوزن من لوازم الشاعر.. عندما يقول الشعر من موقع الشاعر لا من موقع آخر.. ويكون من مبلجات الحكمة حينما يقوله الشاعر من موقع الحكيم.. إن اتخاذ الوضعية هي التي تحدد غرض القول وأن الشعر يتطلب التموقع والتجرد لذلك التموقع.
تأتي الأقوال الحكمية على هيئة قصيرة مكثفة ومختصرة موجزة.. في الموروث بما فيه من الجوانب الدينية والثقافية.. كأقوال علي ابن زايد.. والتي قالها متخذا موضع الحكيم الشاعر:
(يقول علي ولد زايد
الجاه خير من المال
المال ثوبن مصبن
إذا نزل سيل أهجاه).
وكمقطوعة أحمد بن زيد المحطوري والتي كتبها من موقع الشاعر الحكيم:
(إذا رفعت خسيسًا
فسوف يزداد خسه
وإن وضعت كريمًا
فلن يطأطئ رأسه
والمرء في كل حال
من حيث يطرح نفسه
فالبعض سقط متاع
يقرر الناس كنسه
وفي الشدائد يخفي
مثل النعامة رأسه
والبعض جلمد صخر
تدمى يدا من يمسه).
(2)
ما يكتب في اطار الحدث الكلي مواربا للسرب _ونعني بالسرب "القروب" بمفهومه الرقمي_ هو المجاراة الحقيقية.. وما يتم عبر نسق منظم جزء من كل مجاراة الحدث.:
(الموت ما نرضى يجي بالجمله
لو كان ضروري
فاصرفوه بالتقسيط
اطفالنا ماتوا بأبشع قتله
في وسط مستشفى الكويت بالتفريط).
إن المجاراة فعل تاريخي كما أن النقد هو فعل فلسفي... إن ما ليس فعلا فلسفيا فهو بدرجة أدنى المباراة التي هي فعل قوى بدنية أكثر من كونها فكرية... إذا فمفهوم المجاراة غير مفهوم المباراة... كما أن مجاراة الأحداث بمنأى عن السرب _ولا نعني بالسرب القطيع إطلاقا_ هي غير مجاراة الحدث في حقل مؤطر.. وبالمناسبة فإن ما يكتبه أحمد المحطوري غير ما يتم في أروقة القروبات..
(إذا لم أكن (يعقوبَ) في طول حزنه
فكل أسيرٍ داخل السجن "يوسفُ"
سأغدو بصيرًا حين يأتي محرَّرًا
فيلقي على وجهي قميصًا، فيُعرفُ
ويستقبل الشعب اليماني أسوده
يكاد يطير البعض والبعض يزحفُ).
"لست بخير"
(كل عام وأنت لستَ بخير
يا ابن زيد إلا بنصرٍ ينالُ
كل عام و أنتِ لستِ بخير
يا بلادي ما دام فيك احتلالُ
لا الجنوب الجنوب في ما عرفناه
عزيزًا ، و لا الشمال الشمالُ
سنخوض الجهاد عامًا فعامًا
ومن الله النصر دومًا يُنال
جبهات الصمود فيها رجال
هم حماة الحِمى جبال جبالُ
كل عيد يقال أنت بخير
قلت : يوم انتصارنا ، سيقال
فاشكروا في جبهاتنا كل حُرٍ
صادق ، لم يقل لدينا عيالُ
عيدنا في جبهاتنا ، وهو عز
إن للنصر عيده ... يا رجالُ).
هذه المقطوعة تدخل أيضا ضمن ما أسعى لقراءته من أدب المجاراة .. جاءت في سياق ومضات يومية تفاعلية مع الأحداث لإجراء طقوس العيد في مواقع الدفاع عن الوطن. لكنها متفردة لتضمنها بعدا فلسفيا وتفردها ببعدها العميق جاء نتيجة لنوء شاعرها الحكيم قليلا مع اعتزازه باتخاذه وضعا محاذيا للسرب.. ما يقتضي انبثاقها بما هي عليه من بنية ثرية.
(3)
"في كل وجه من الله نور"... عبارة قديمة لي تذكرتها وأنا أقرأ للمحطوري.. هذا البيت:
(أرى الله في سائر الكائنات
فما أعظم الخالق المبدع).
إنه يفتح آفاقا لا محدودة لمعرفة الجمال.. ويختصر مواطن جمة تتحدث عن معنى الوجود وكيف أن كل مخلوق هو دليل على خالق مبدع عظيم.. والعبرة في القدرة على استبصار ذلك الجمال.. من خلال ذائقة جمالية واعية للمجردات والطاقة الاستشعارية العالية لدى الحكيم أحمد بن زيد لمحطوري.. وهي غير متاحة إلا لمن وهب ملكة تجلي ما وراء الطبيعة... فيما يسمى بميتافيزقيا الجمال.. بيت من الشعر يمكن أن نكتب عما يكنز من معاني بليغة وعميقة في أوراق كثيرة.. وبما يؤكد أن لدى حكيمنا المحطوري من الأسرار النورانية الكثير.. حسنا من أين يأتي العرفانيون بكل هذا التوهج.. لا شك أن ثمة ثمن يدفعونه مقابل حصولهم على هذه الملكة النورانية.. إنه الحب بلا شك.. الحب ولا سواه.. الحب.. هو ذاته الصدد الذي ساق ابن عربي للقول:
(لقد صارَ قلبي قابلاً كُل صورةٍ..
فَمرعىً لغزلانِ ودَيرٌ لرهُبانِ
وبيت لأوثان وكعبة طائفِ..
والواح توراةٍ ومصحفُ قرآن..
أدينُ بدين الحُب أنّى توجهت ركائبهُ..
فالحبُ ديني وإيماني).
وبصورة مماثلة مضمونا مغايرة شكلا فإن الحب الذي مكن الحكيم المحطوري من أن يرى الله في سائر الكائنات.. هو ذاته الحب.. لكن في الجانب الإنساني الذي مكنه من استشفاف وتجلي آلام وأوجاع وأحزان الآخر في عيون الأم "حمدة"... حيث يستشعر كل ذلك حكيمنا المحطوري من خلال:
"عيون الأم حمْده"
(في عيون الأم حمدة
قد رأينا الله وحده
في عيون الأم حمدة
يمن الصبر و صعده
في عيون الأم حمدة
حزن يعقوب و فقده
في عيون الأم حمدة
يوسف في الجب وحده
في عيون الأم حمدة
كربة السجن و قيده
في عيون الأم حمدة
الف صرواح و صعده
في عيون الأم حمدة
حقق الرحمان وعده
في عيون الأم حمدة
أظهر العدوان حقده
في عيون الأم حمدة
كل حر ثار وحده
في عيون الأم حمدة
شعبنا قد شد زنده
في عيون الأم حمدة
كم رجالًا مستعده
في عيون الأم حمدة
نارنا صارت مُعدّه
في عيون الأم حمدة
يمن قاوم وحده
في عيون الأم حمدة
رد صنعاءْ فوق جده
في عيون الأم حمدة
كلنا أبناء حمدة
في عيون الأم حمدة
الف أم مثل حمدة
صبرُنا في عين حمدة
(1000) يوم جآء ردّه
إن نصر الله حمده
شكرنا يتبع حمده)
تكرار لا يمل.. لجملة "في عيون الأم حمدة".. ولا يوجد مسوغ لأن يمل.. لأن تواجده مكررا يبرر نفسه.. من خلال فاجعة حمدة الملحة.. ومن خلال شعرية عيون الأم حمدة المغرورقة في القهر والحزن وفداحة وهول المصيبة.. والبكاء... هذا كله مسوغ مهم ومبرر أهم لتكرار اللزمة.. والتي تبدو للوهلة الأولى شكلا في حين أنها جوهر يرتدي زي المظهر.. كما لا مجال لتجييرها إلى حساب في ذهن المتلقي كمظهر من "التلقي".. إذا كانت عينا ودموع حمدة بدت هنا كأنشودة معزوفة في أوبرا وجدان الشاعر... فهل نتوهم أن ثمة قارئا ضمنيا مختبئا بين ثنايا اللازمة.. لا يوجد إشارة واحدة توحي بصياغة النص بأثر ضمني للمنشد.
هذا من وجهة تفكيكية.. وإلا فإن ثمة التقاطة ما بعد تفكيكية نسقية لنفس الصورة لعيون الأم حمدة.. ندعي بها قراءة لأبعاد النظرة العميقة التي تظاهي التقاطات دافنشي للموناليزا من جميع الزوايا.. لكنها هنا نراها من خلال بصمات الشاعر في تراجيدية الصورة.. وفي سرديات نظرات الصورة.