شهد يوم 26 حزيران/يونيو الجاري عملين لافتين يعبران عن تطور مسار المقاومة باتجاه اللاعودة عن المكتسبات، وهو ما يعني بالنسبة للعدو الاسرائيلي أنه لا عودة بالزمن للوراء وأن الزوال يقترب مهما اجتهدوا في التشويش على ذلك بتصريحات أو جرائم أو سياسات لا تزيد الطين الصهيوني إلا بِلّة.
وهذان العملان هما إسقاط المقاومة لمسيّرة صهيونية اخترقت الأجواء اللبنانية، وانطلاق صاروخ من جنين باتجاه المستوطنات الصهيونية المغتصبة من الضفة. وهو ما يتطلب توضيحًا وإضاءة على النحو التالي:
1- بخصوص إسقاط المسيّرة الصهيونية، فهو تأكيد لمسار دشنته المقاومة الإسلامية في لبنان بأنه من غير المسموح تغيير قواعد الاشتباك، وأن الظروف الداخلية الصعبة للبنان والمتمثلة في الحصار الخانق وتعقيد العملية السياسية والفراغ الرئاسي ومحاولة تأليب الجماهير والمجتمع الدولي على المقاومة والاتهامات الجائرة لها بأنها هي المعطل والسبب في أزمة لبنان، كل ذلك لن يؤثر على معادلات المقاومة وسلاحها ووفائها بعهدها ووعيدها للعدو، وهو مسار يتأكد بمناورات المقاومة العسكرية ورسائلها وبخطوطها الحمر التي يجبن العدو عن اختراقها، وهو ما ظهر في الحادثة الأخيرة من صمت مطبق للعدو الذي اعترف بسقوط مسيّرته دون تعليق أو تهديد حتى أجوف.
2- بخصوص الصاروخ الذي انطلق من جنين فهو إنذار بتحول استراتيجي للمقاومة فيها، حيث يشكل باكورة لمعادلة ردع متقدمة على غرار غزة، وهي رسالة تنضم إلى رسالة العبوة الناسفة التي أعطبت الآليات الصهيونية، ولكنها رسالة هجومية، فهي تقول أن العبوات الناسفة إن كانت تشكل رسالة ردع تعني أن الاقتحام الصهيوني ليس نزهة ولن يمر دون كلفة، وأن أي عدوان لن يمر دون عقاب.
ولعل الكابوس الصهيوني يكتمل بخصوص الضفة، حيث تم تشبيهها بجنوب لبنان في التسعينيات وذلك دفاعيًا عندما قاوم الاقتحامات، والآن يتطور الأمر ويتم تشبيهها بغزة والجنوب اللبناني بتهديداتهما الهجومية الصاروخية.
ومن يطّلع على وسائل الإعلام الصهيونية سيعرف جيدًا الهاجس الذي باتت تشكله الضفة وخاصة جنين والمعضلة الصهيونية في كيفية التعامل معها، ومناقشة السيناريوهات المختلفة والاعتراف بأنها كلها سيئة، حيث لا يمتلك العدو تصورًا يخص السيطرة على الضفة ومستقبل السلطة الفلسطينية، وما إذا كان يستطيع التخلي عن السلطة وما هي البدائل؟ والعديد من الأسئلة التي يعجز العدو عن الإجابة عنها.
ولكن الأمر اللافت هو استدعاء الصهاينة لخطة قائد فيلق القدس الشهيد قاسم سليماني، والاعتراف بأن المعضلة الراهنة التي يمر بها الكيان هي نتاج الخطة المحكمة لسليماني بحصار العدو من جميع الجبهات ومن المتوسط إلى اليرموك، إضافة إلى تسليح الداخل الفلسطيني ليكتمل الحصار.
وهنا نستشهد بما قاله إيهود يعاري في معهد واشنطن، وهو زميل ليفر الدولي في معهد واشنطن ومقره في "إسرائيل" ومؤلف "نحو فك الارتباط بين الإسرائيليين والفلسطينيين" و"عملية السلام المجزأة: عقد من السياسة المصرية". ويعمل كمُعلّق لشؤون الشرق الأوسط في القناة الثانية بالتلفزيون الإسرائيلي ومحرر مشارك سابق في صحيفة "جيروزاليم ريبورت"، ويتولى التعليق على شؤون الشرق الأوسط في التلفزيون الإسرائيلي منذ عام 1975، وحاصل على جوائز متعددة منها جائزة رؤساء التحرير في الصحافة الإسرائيلية عن تغطية عملية السلام مع مصر، وجائزة سوكولوف عن تغطية حرب لبنان وجائزة البث الإسرائيلية عن تغطية حرب الخليج.
وتحت عنوان "خطة قاسم سليماني الاستراتيجية"، يقول ايعاري إن استحواذ إيران على قواعد صاروخية في سوريا يشير إلى تقدم كبير في خطتها لتطويق "إسرائيل" بترسانات من الصواريخ، تمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر اليرموك في الشمال والشرق، بالإضافة إلى قطاع غزة في الجنوب الغربي. ويحاول عناصر "الحرس الثوري الإيراني" أيضًا مساعدة حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي الفلسطيني" على تنظيم أتباعهما في الضفة الغربية للبدء في تجميع صواريخ مرتجلة محلية الصنع تستهدف المراكز السكانية الرئيسة في "إسرائيل"، حسب تعبيره.
ويضيف إيعاري إن الجنرال قاسم سليماني كان قد وضع خطة لنشر معدّات حربية ترعاها إيران على الأراضي السورية تضم الآلاف من منصات الصواريخ وأساطيل الطائرات بدون طيار والبطاريات المضادة للطائرات وسلسلة من المواقع المحصنة على طول الحدود الإسرائيلية تدعمها تشكيلة من منصات جمع المعلومات الاستخباراتية. مضيفًا إن سليماني هو أول زعيم شرق أوسطي يملك استراتيجية مفصلة تستهدف "إسرائيل "تدريجياً. فهو لم يتبع خطة الرئيس عبد الناصر بهجوم جماعي تشنّه الجيوش العربية لسحق "إسرائيل". لقد نشر، بدلًا من ذلك، قوات غير نظامية ومجموعة من الميليشيات القوية المجهزة بكميات هائلة من الصواريخ والقذائف والتي تقودها إيران لتشكيل تهديد وجودي لـ"إسرائيل"، وتقوم خطته على الاستنزاف البطيء وليس الهجوم المفاجئ.
ويختتم إيعاري تقريره بالقول نصًا: (ليس أمام "إسرائيل" الآن خيار سوى إحباط الجهود الإيرانية بقوة، والمتمثلة بتنفيذ خطة قاسم سليماني الاستراتيجية للتغلب على |إسرائيل|. وهذا الأمر يتطلب المخاطرة. قتلت الولايات المتحدة في كانون الثاني/ يناير 2020 العقل المدبّر لأول خطة شاملة وُضعت لخنق الدولة اليهودية ببطء، ولكن مخططه لا يزال على قيد الحياة إلى حد كبير).
لا شك أن ما نراه اليوم من تنام لقوى المقاومة وعدم اكتفائها بتوازن الردع بل بتشديد الخناق على الكيان، هو من بركات جهود الجمهورية الإسلامية والشهيد قاسم سليماني ومن بركات التراكم التاريخي للمقاومة منذ عهد المقاومة العربية وزعيمها عبد الناصر، وصولًا إلى القادة الصامدين والمقاومين المرابطين على الثغور، وهو مسار لن تكون ثمرته إلا النصر المبين.
* نقلا عن :موقع العهد الإخباري