لا شك أن سببًا من أسباب صفرية المعركة الراهنة بين العدوّ الصهيوني والراعي الأميركي الاستعماري له وبين محور المقاومة، هو أن هناك صدامًا بين مشروعين إستراتيجيين.
فالاستعمار والصهيونية كلاهما مشروع إستراتيجي يقوم على أعمدة رئيسية، أبرزها وجود فجوة بالقوّة ومعادلة ردع ورعب والاحتفاظ بقدرة على توظيف الآخرين واستعبادهم.
بينما المقاومة مشروع إستراتيجي يقوم على هدف التحرير ومراكمة القوّة والحفاظ على الاستقلالية التي تمكّنه من مقاومة الحصار والعزلة.
وفي محطات الصراع الممتدة مع الاستعمار والصهيونية، حاولت القوى الكبرى الراعية للصهيونية استخدام إحدى وسيلتين للتمكين وهزيمة المقاومة، أُولاهما القوّة والحروب العسكرية، وثانيهما الاحتواء والحصار ومحاولة الوقيعة والفتنة في حال ارتفعت كلفة المواجهات المسلحة.
وانقسم النظام العربي الرسمي لفريقين، أحدهما نظام مقاوم وهو نظام إستراتيجي يقوم على الاستقلال الوطني ويلتزم خيار المواجهة، والآخر نظام تكتيكي لا ينظر إلا تحت قدميه ولا يرغب إلا في تحقيق المصالح الوقتية ولا يعبأ لا بالثوابت أو القيم أو حتّى حكم التاريخ.
وقد واجهت القوى الكبرى الراعية للصهاينة بداية من بريطانيا ووصولًا لأميركا الأنظمة الإستراتيجية المقاومة مثل نظام جمال عبد الناصر في مصر ومعه أنظمة التحرر الوطني العربية بالقوّة، ثمّ اتجهت لاحتواء الأنظمة التكتيكية المفرطة مثل نظام السادات والأنظمة الخليجية لتفريغ الوحدة من مضمونها وشق الصفوف وتصفية القضية المركزية تدريجياً.
إلا أنه، ولسوء حظ الاستعمار وأميركا والصهاينة، فإن المشروع المقاوم استمر وولدت من رحم التفريط حركات مقاومة كبيرة وقامت ثورة إسلامية في إيران لتتصدر محوراً للمقاومة، وتضافرت إيران وسورية الثابتة على مبادئها وحركات المقاومة في رسم خطوط هذا المحور الإستراتيجي المواجه لمحور الاستعمار والصهيونية، وهو ما شكل عجزًا لأميركا والكيان الصهيوني عن احتوائه أو إغرائه أو شق صفوفه رغم المحاولات المستمرة.
وربما كانت أحدث محاولة خائبة ومضحكة لشق الصف المقاوم، هي محاولة نتنياهو للتواصل مع حركة الجهاد وإغرائها بدور في مستقبل غزّة مقابل التخلي عن حماس، وهي محاولة بائسة مضحكة فضحتها حركة الجهاد بالإعلام وردت عليها بصورة بارزة للقائدين زياد النخالة وإسماعيل هنية.
هنا يتبين جانب كبير من طريقة التفكير والتعاطي الصهيوني الاستعماري، والذي يرفض دورًا للسلطة العميلة والمفرطة في غزّة بينما يحاول إغراء حركة مقاومة بدور مقابل تخليها عن المقاومة.
أي أن حاجة الصهاينة وأميركا للتخلي عن خيار المقاومة يسبق حاجتها لتوظيف العملاء والراكعين، ويكشف أيضًا نوايا الكيان الحقيقية التي ترفض الربط بين الضفّة وغزّة حتّى من خلال سلطة عميلة، لأن نواياها تخلو من وجود أي دولة أو حتّى صورة لدولة فلسطينية.
والحاصل الآن هو أن أميركا لا تجد طرفًا يمكن تطويعه كما طوعت الأنظمة الرسمية، بل وتمارس كافة الضغوط بالتعاون مع الأنظمة الرسمية الخادمة لها لانتزاع تنازلات من المقاومة والاجتهاد في إجهاض انتصار المقاومة الإستراتيجي، ولكنها تقابل بحائط صد فولاذي من الصمود والشجاعة والوعي المقاوم بطبيعة اللحظة ووجودية المعركة وبمفهوم النصر الإستراتيجي.
هنا يعلم الكيان أن سقوط الردع يعني بداية طريق الزوال، كما تعلم أميركا أن فقدان القدرة على إدارة الصراع وفقًا لمصالحها يعني طردها قريبًا من المنطقة، وبالتالي فالمعركة الصهيو - أميركية واحدة.
والمحور كله أبدى قدرته وشجاعته على التصعيد بداية من إيران ومرورًا باليمن والعراق ووصولًا للبنان وسورية، وفي القلب المقاومة الفلسطينية الباسلة.
هل يرتكب العدوّ حماقة العدوان على لبنان؟
موضوعيًا وعسكريًا لا يذهب العقل الإستراتيجي إلى مواجهة صهيونية على جبهتين في ظل توزيع فرق وألوية العدوّ العسكرية وفي ظل رسائل الردع القوية والمدروسة التي وجهتها المقاومة الإسلامية بغرض الردع، حيث أبرزت بعضًا من بأسها ونماذج مصغرة مما يمكن أن تقوم به، ويعلم العدوّ جيّدًا أن المقاومة تحتفظ بمفاجآت على المستويين الكمي والنوعي.
ولكن سياسيًّا فإنه لا يجب استبعاد أي احتمالات، بلحاظ الأزمة المستحكمة التي يمر بها نتنياهو والكيان الصهيوني كله والتي تتمثل في الانقسامات السياسية والمزايدات بين السياسيين وغضب الجبهة الداخلية وخاصة في الشمال بعد تهجير المستوطنين بفعل عمليات المقاومة اللبنانية.
وقد لا يجد الكيان أمامه إلا محاولة شمشونية بافتعال حرب وشن عدوان على لبنان عن طريق الاعتداءات الجوية، حيث لا يملك فرقًا على الأرض، وقد يظن العدوّ أنها حرب محسوبة وأيام قتالية تنتهي بهبة دولية كبرى ومحاولات احتواء تنتهي بوقف لإطلاق النار وبالتالي إيقاف ساحة الإسناد اللبنانية.
وقد تكون هذه الحسابات هي حسابات أميركا أيضًا حيث تعجز أميركا عن وقف وحدة الساحات، وبالتالي فإن وقف ساحة لبنان تحت عنوان احتواء حرب إقليمية قد يكون احتمالاً مرجحاً لدى أميركا و"إسرائيل".
ولكن، لو كانت هذه هي حساباتهم، فعليهم أن يعلموا أن المقاومة في لبنان أعلنت انها لن تتوقف إلا بوقف إطلاق النار في غزّة وفقًا لما تراه المقاومة الفلسطينية صاحبة القرار وبما تراه محققاً للنصر، وعلى العدوّ الأميركي والصهيوني أن يتوفر لديه اليقين بأن المقاومة، وإن كانت لا تسعى لحرب كبرى، فإنها لا تخشاها، وأن رسائل المقاومة النارية المتصاعدة هي رسائل مزدوجة، بمعنى أنها تحذيرية وتهدف لردع الكيان عن عدوان شامل وحرب كبرى، وفي نفس الوقت إعلان عن قدرة وجهوزية للوصول لأقصى المديات بما فيها المواجهة الشاملة ولو مع أميركا نفسها وليس مع الكيان المؤقت فقط.
إن معركة الإسناد في لبنان واليمن والعراق وكامل محور المقاومة اندلعت لتحقيق النصر في غزّة وردع الكيان عن تصفية القضية، ولكن لو أرادها العدوّ حربًا كبرى فستنتهي بزوال الكيان مهما كانت التضحيات.
* نقلا عن :موقع العهد الإخباري