يبدو أن العدو الإسرائيلي كان بحاجة لعملية استعراضية كبيرة قوامها يتجاوز الألف جندي وعشرات الآليات، مع هدف معلن رنان مفاده القضاء على جنين كملاذ وملجأ آمن (للإرهاب)، كي يستعيد بعضًا من الثقة ويرمم تآكل الردع الذي وصل لأخطر مستوياته بعد ثلاث محطات رئيسية وهي:
1- مقاومة جنين للاقتحام وتهديد آليات العدو بالعبوات الناسفة الثقيلة.
2- انطلاق صاروخ تجريبي من جنين كمقدمة لمرحلة صاروخية قادمة أكثر تطورًا وعمقًا.
3- العجز عن التعاطي مع ما أثير حول خيمتين قيل انهما لحزب الله في مزارع شبعا وافتقاد القدرة والشجاعة على ازالتهما خشية العواقب والاحتكاك.
كما تواترت التقارير والتحليلات التي تفيد بأن الضفة تتحول تدريجيًا لنموذج مماثل لجنوب لبنان من حيث العجز عن الاقتحام والتوغل ومن انطلاق المقاومة منها ثم وجود بذور لمشروع صاروخي.
وشمل تواتر التحليلات أيضًا رصد حالة العجز الصهيونية عن الأسلوب الأمثل للتعاطي، وهل سيكون بالاقتحام والاحتلال أم بالعمليات المتفرقة، وكذلك العجز عن بلورة موقف من السلطة الفلسطينية ومستقبلها وجدواها وفقًا للمصلحة الاسرائيلية.
ويبدو أن العدو كانت أمامه كل الخيارات سيئة ولكن خيارًا واحدًا لا يستطيع انتقاءه، وهو الصمت والوقوف دون عمل، حتى لو كان عملًا عبثيًا.
ومن هنا جاءت عملية اقتحام جنين بهذا الشكل الاستعراضي، وبهذه الرسائل الموجهة للداخل الصهيوني، ومن مجمل الشواهد الميدانية والسياسية وكذلك من رصد التحليلات والتعليقات الصهيونية يمكننا رصد ما يلي:
أ
ولًا: هناك محاولة صهيونية للملمة الجيش الصهيوني وثقته قبل أن تتحول جنين لعقدة نفسية لدى الجيش، ومن هنا كانت الاستعانة بالطائرات وبهذا العدد والعتاد المكثف والذي لا يتناسب مع مخيم لا تقارن قوته العسكرية بما تم اعداده لمواجهته من جانب العدو.
ثانيًا: يرى المحللون الاستراتيجيون الصهاينة أن الجبهة اللبنانية وصلت لنقطة اللا عودة من حيث تثبيت معادلات الردع وأنها أفلتت من العدو ولا يستطيع استعادة الردع بها بعد تنامي قوة حزب الله بل ووصوله لمرحلة المبادرة، ويرون أن الصمت على الضفة وتحديدًا جنين سيحولها لنقطة اللاعودة، أي ينبغي الحيلولة دون تنامي القوة بها وعدم السماح لتشكيل معادلة ردع. وبالتالي فإن هدف العملية هو منع "لبننة جنين".
ثالثًا: في إطار التصعيد الصهيوني المعلن فإن العدو يحرص أيضًا على عدم إطالة المعركة والهروب سريعًا من جنين لمنع الانزلاقات ودخول ساحات أخرى وهي سياسة مماثلة لسياسته في غزة.
ولكن هل حقق العدو أهدافه؟
في الواقع لم يحقق العدو هدفًا واحدًا من أهدافه بل على العكس، ازدادت الأزمة الصهيونية تعقيدًا لسببين:
1- شهدت جنين مقاومة باسلة أثبتت أنها عصية على التركيع وشهدت انسحابات تكتيكية من الكتائب المقاتلة ثم الالتفاف خلف خطوط العدو وهو ما أجبر العدو على الإعلان سريعًا عن انهاء العملية بدعوى اتمام أهدافها وأنها ستتكرر على مراحل!
2- جاءت العملية البطولية في "تل ابيب" كردّ على الاقتحامات لتثبت للعدو أن حماقاته سترتد عليه في عقر داره وأن جرائمه لن تزيد المقاومة إلا صمودًا والانتقال لنمط "الذئاب المنفردة" في العمق الصهيوني، وبالتالي لن يتحقق الأمن للصهاينة بل المزيد من الرعب.
ومن المفارقات، أن يكون وزير الأمن القومي الصهيوني هو أكبر خطر على الأمن القومي الصهيوني. بن غفير الذي يدعو المستوطنين والصهاينة من موقع العملية البطولية في "تل ابيب" لحمل السلاح وتشكيل الميليشيات، قد خرق خطًا من الخطوط الحمر التي حذر منها معهد دراسات الأمن القومي الصهيوني، حيث حذر من خطورة تشكيل ميليشيات شعبية مسلحة باعتباره خطرًا كبيرًا على المجتمع الصهيوني!
لا شك أن الأمور في الضفة وفي جنين تحديدًا تتخذ مسارًا غير قابل للعودة للوراء خاصة وأن الخطيئة الصهيونية الدائمة تتكرر، وهي محاولة تركيع المقاومة بالقوة وبالقتل، وهي سياسة أثبتت على الدوام أن نتيجتها هي تنامي المقاومة وتطور معادلاتها.
* نقلا عن :* نقلا عن :