مجلس عسكري "انقلابي" في النيجر صك أسماع العالم ولم تمض أسابيع على إطاحته بمحمد بازوم، الدمية الفرنسية التي تشغل منصب رئيس للبلاد هناك.
"انقلابيو نيامي" يعرفون ما يريدون ويفعلونه كما يبدو من المؤشرات الأولية حتى اللحظة..
يريدون أن "ترفع فرنسا وصايتها الاستعمارية المُقنَّعة على القرار في النيجر وتكف عن نهب ثروات شعبها المفقر" وعليه فإن المجلس العسكري قرر إلغاء الاتفاقية العسكرية والأمنية مع فرنسا بقوة التأييد الشعبي ودون حاجة لمجلس نيابي هو جزء من منظومة وكلاء الاستعمار في النيجر.
في اليمن أردنا التحرر من علاقات الاستلاب الاستعماري الوصائي ولم نفعل على المستوى السياسي شيئاً يترجم هذه الإرادة، وعوضاً عن ذلك دخلنا تحت "وصاية الفصل السابع" باسم "اتفاق سلم وشراكة" مع سلطة كمبرادورية لم نطح برئيسها الذي أفلت "من عيون الثورة" بعد أشهر، ليستوي دمية رسمية بيد الوكيل الإقليمي السعودي، قتل ويقتل باسمها تحالف العدوان الأمريكي، إلى اليوم، عشرات الآلاف من أبناء شعبنا، هذا عدا تدميره شبه الكلي للبنية التحتية في اليمن!
لا شعب على سطح المعمورة واجه عدواناً شاملاً مديداً ومسنوداً بتواطؤ عربي ودولي عسكري واقتصادي وسياسي وحقوقي غير مسبوق، كما واجه شعبنا ويواجه طيلة نحو عقد من الصمود والتضحية والدم والمعاناة والتجويع.. عقد مأساوي لم تتصرم فصوله بعد...
كل هذا الغرم الهائل يقدمه شعبنا في سبيل حرية مؤجلة واستقلال مُرجأ، وعلى طريق ثورة لم تتخذ حتى اللحظة قراراً ثورياً جريئاً واستراتيجياً لجهة ترجمة آماله عملياً سوى قرار المواجهة التي تمثل غرماً محضاً لعيون كرامة غير ممكنة مادامت علاقات الاستغلال هي المسيطرة في كل منحى من مناحي الحياة وفي الحكومة والسوق على السواء كمنظومة واحدة.
كلما نزفت جراحنا بغزارة تكاثر البعوض والذباب على جراحه ولا ضمادة..
لا أحد من متخمي هذا البلد العريقين، خسر كيلوجرامات من كرشه بالعدوان بل تكورت كروش وتكاثرت على شماعته، ووحدها الغالبية المسحوقة زادت أضلاعها وعظام جماجمها نتوءاً وهي تستشرف مستقبلاً كريماً متخيلاً، وتعلك حجر الصبر والعوز وتنام على صوت غليان قدور الوعود!
لدينا اليوم منحى آلام شعبية يصعد حثيثاً، يقابله منحى آمال ينكص صوب حضيض اليأس واستذكار فضلات رفاه قديم والتحسر على زمن قزامة كانت مواتية فيه وبلاط متخم كان يتجشأها صدقات فوق رؤوس الشعب!
لدينا حكومة جباية بامتياز، تتحسس ما تبقى من مواضع عافية في جسد الشعب المثخن، لتنهشها باسم "ضرورات المرحلة"، فالمعاناة الشعبية باتت هي الثروة الوطنية الكبرى التي يحرص المعنيون على تنميتها ويخشون من انخفاض منسوبها، على "سيادة البلد الذي يتكالب الغزاة لاحتلال ما تبقى منه"، وأما الثروات المادية فيه فقد احتلها الغزاة بجدارة، ولم تعد موضوعاً يقلق القلقين على السيادة!
لنحو عقد ونحن نقف باكين صابرين، فوق أطلال منازلنا المقصوفة بغارات العدوان، نلملم أشلاء أطفالنا وأحبائنا التي تناهبتها أساطيل عقبانه ودراكيولاته، على وعد الثأر لها وتثمينها نهوضاً كريماً في كنف حرية ناجزة واستقلال تام، بينما كانت الحكومة ولاتزال تقص أشرطة الافتتاح الحمراء على بوابات المُولات والجامعات والمشافي "الخاصة" ومولدات الطاقة التجارية، التي تتكالب على دورة شعبنا الدموية استثماراً في جرحه الارتوازي النازف بلا انقطاع ولا نضوب..
يجزر العدوان الضحايا جواً وبحراً وتتداعى رمميات البر، تطبخ صفقات التخمة على أثافي الأكباد المحروقة ونواح المفجوعين في فلذاتها!
والحصيلة شعب يكدح في بناء القصور للمترفين ويعيش على الأرصفة... ينحت في الصخر عن كسرة طعام ويبيت طاوياً حجراً على بطنه.. يهجر أبناؤه صفوف الدراسة كادحين في سوق العمل الضنين ليشتروا مقعداً دراسياً لأبنائهم في سوق "التعليم العام"، وحقنة دواء في سوق "الصحة العامة" وقبراً في مدافن "الأوقاف العامة،... ويحيا السوق الذي يبتلع عموم البلد، بمؤخرة "خصوصي"!
ماذا تعني عبارةُ "سننتزع رواتبنا من ثرواتنا"؟!
كيف أصبحت "الرواتب" وهي حق وتحصيل حاصل، الهدف الأول للثورة؟! وكيف أصبح انتزاعها "من ثرواتنا" بديلاً عن تحرير الأرض المحتلة والثروات المنهوبة؟!
لقد تنازلنا عن سمائنا مقابل "ثلاث رحلات جوية مدنية" يحدد العدو مساراتها ويذيل كشوفات مسافريها بختمه العسكري، ويمد عبرها جسور التواصل بـ"المؤلفة قلوبهم من طلقاء الفتح" ويفتح ذراعيه لـ"من استطاع إليه سبيلاً" من حجيج الطاولات والموائد السياسية!
ومقابل بضع سفن وقود مستورد ونفايات استهلاكية، سلَّمنا دفة البحر لـ"العاصفة" التي تجري بما يشتهي قراصنة المارينز وأنابيب أرامكو وأساطيل نعيم إمبريالي عالمي تمخر مياهنا قيد ميلين من جحيم تهامة وسنابق صياديها الجوعى العالقين في شباك "أسمرة" والملفوظين جثثاً على سواحل دمنا المهدور بحبر الدبلوماسية الخرقاء والهدنة المرتجلة!
ليست بين مهام الثورة أن تهذب نفوس الهوامير وتجار البورصات والإقطاعيين وكبار اللصوص، بل أن تنتزعها وتحتز رؤوسهم، وتسحلهم من أقدامهم الضاغطة على أضلاع المستضعفين والمسحوقين..
عدا ذلك فإن أي ثورة تصبح صك تجديد للجبابرة بأمد طويل، وجرافة تشق طريقاً لجبابرة جدد، يعبرون إلى العرش على أنقاض الأكواخ وبيوت الصفيح!
فلنبتهل ألا ينتكس المسار التحرري لشعب النيجر فلعلنا نقرأ عثراتنا على ضوء شعلته الفتية ونستعيد مسارنا الثوري وأن يسعفنا الوقت لذلك.
* نقلا عن : لا ميديا