الحرب الاقتصادية على لبنان شملت المشتقات النفطية لما لها من آثار مباشرة على جميع اللبنانيين، ولأن القانون اللبناني يسمح للشركات التجارية باستيراد النفط وبيعه في الأسواق اللبنانية، تسيطر 5 شركات على أكثر من 65% من كمّيات البنزين المستوردة. أمّا في سوق المازوت، فتستحوذ 3 شركات على أكثر من 55% من السوق، هذه الشركات استجابت للمشروع الغربي الذي تديره بطريقة مباشرة السفيرة الأمريكية في بيروت دوروثي شيا، وبدأت تضييق الخناق على المواطنين، وإخفاء الوقود، وأغلقت عدد من محطات الوقود أبوابها.
وتماهياً مع الأزمة المفتعلة رفعت وزارة الطاقة اللبنانية أسعار المحروقات بطريقة تدريجية وصولاً إلى قرار حاكم المصرف المركزي برفع الدعم كلياً عن استيراد الوقود، الأمر الذي اتخذه تجار النفط ذريعة لوقف عملية البيع بشكل كامل حتى استفحلت الأزمة، وتوقفت الشركات التجارية والمستشفيات والأفران والمصانع والمعامل والمرافق الخدمية عن العمل، لحظتها تدخل الجيش اللبناني لمواجهة الأزمة وباشر بتنفيذ مداهمات لمحطات الوقود، ومصادرة كميات كبيرة من الوقود المُخزن، وتوزيعها على المواطنين اللبنانيين.
هذه الخطوة خففت من المعاناة بعض الشيء ولكنها لم تنه الأزمة، الأمر الذي دفع حزب الله إلى تقديم مقترحات لاستيراد النفط من الجمهورية الإسلامية في إيران بالعملة الوطنية «الليرة» عبر وزارة الطاقة اللبنانية، ولكن الحكومة كانت أضعف من أن تتجاوب مع هذا المقترح، خوفاً من التهديدات التي أطلقتها السفيرة الأمريكية، لم يقبل الحزب بمشاهد طوابير الذل للمواطنين على أبواب محطات الوقود، وقرر استيراد النفط مجاناً من إيران في خطوة تكسر الحصار الأمريكي على لبنان، وعلى الرغم من الضجة التي أحدثها هذا القرار وإعلان القوى السياسية المعارضة للحزب بأن هذا القرار سيعرض لبنان لعقوبات اقتصادية أمريكية، إلا أن السيد حسن نصر الله أصدر تحدياً واضحاً وتهديداً صريحاً للجانبين الأمريكي و»الإسرائيلي» من التعرض للسفن النفطية، مشيرا إلى أنها تعتبر أرضا لبنانية منذ لحظة إبحارها من إيران.
واتهم نصر الله السفارة الأمريكية في بيروت بشن حرب اقتصادية لفرض خيارات على اللبنانيين لا تتناسب مع مصالحهم الوطنية، ليؤكد للشعب أن أزمة المحروقات مصطنعة ومفتعلة، وكان يمكن للدولة معالجتها منذ اليوم الأول بحسب تعبيره، لم تكن المرة الأولى التي تتدخل فيها واشنطن في موضوع المشتقات النفطية القادمة من إيران، فقد سبق أن تدخلت ومنعت لبنان من أن يستفيد من العروض والهبات المقدّمة من دول أخرى مثل روسيا والصين، غير أن تهديدات السيد نصر الله حركت السفيرة الأمريكية على الفور، لتعلن في مؤتمر صحفي عقدته في العاصمة بيروت، أنها سلمت رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي رسالة خطية من وزارة الخزانة الأمريكية تتعلق باتفاقيات الطاقة الإقليمية بين لبنان والأردن ومصر، خشية من وصول النفط الإيراني الذي وصل بالفعل إلى سوريا وتم تفريغه إلى شاحنات نفطية من بوابة بانياس السورية إلى لبنان عبر الحدود البرية في منطقة البقاع الشمالي، وسط فرحة شعبية كبيرة.
ولأن حزب الله لا يعمل إلا وفق مؤسسات منظمة فهو حاضر في هذا الجانب منذ عقود من الزمن ولديه محطات الأمانة لتوزيع المحروقات والتي أسند إليها مهمة التوزيع، وهي بالمناسبة منتشرة على كافة الأراضي اللبنانية رغم العقوبات الأمريكية عليها، وجرى توزيع الشحنة الأولى من المازوت «مجانا» كهبات إلى المستشفيات الحكومية ودور العجزة والمسنين ودور الأيتام ومؤسسات المياه الرسمية في المحافظات، والبلديات التي تتولى استخراج وضخ مياه الشفة من الآبار ضمن نطاقها، وأفواج الإطفاء في الدفاع المدني والصليب الأحمر اللبناني، وبعدها تم بيع المازوت بأسعار تقل عن الأسعار المعتمدة رسمياً لفئات عديدة بينها المستشفيات الخاصة والمراكز الصحية الخاصة ومعامل الأدوية والأمصال والمطاحن والأفران ومحلات السوبرماركت والتعاونيات الاستهلاكية التي تبيع المواد الغذائية، ومعامل الصناعات الغذائية، والمؤسسات والشركات التي تتولى توليد وتأمين الكهرباء للمواطنين مقابل تقاضي الاشتراكات.
والأهم من هذا كله أن محطات الأمانة أعلنت عن أرقام تلفونات لاستقبال طلبات الحصول على المازوت الإيراني عبر مكاتبها وفروعها لكل الفئات والجهات المستهدفة، وتمت عملية التوزيع بعيدا من أي اعتبارات مناطقية أو طائفية ومذهبية أو سياسية، فكل من كان يتواصل معها ويرغب بالاستفادة من هذه الهبة المجانية كانت الأمانة في خدمته، وتم إيصال هذه الخدمة إلى المسيحيين والمسلمين؛ سنة وشيعة، وإلى الدروز الموحدين، وإلى كل الطوائف دون أي تمييز أو أفضلية.
هذه التجربة جعلت أعداء وخصوم حزب الله يقفون مذهولين من اهتمامه باحتياجات المجتمع وقدرته على التحرك وتخطي الموانع والعراقيل الداخلية والخارجية، دون أدنى خوف أو تردد، ولا ننسى هنا العلاقة المتينة بين حزب الله والجمهورية الإسلامية، التي لعبت الدور الأبرز في مواجهة أزمة المشتقات النفطية، ولم تترك الشعب اللبناني يتجرع مرارات الحصار والحرب الاقتصادية الأمريكية، وهذا لا يعتبر جديداً على إيران التي كانت حاضرة إلى جانب اللبنانيين منذ ما بعد انتصار الثورة الإسلامية وحتى اليوم، في الثمانينيات، وعندما زادت عوامل الضغط على اللبنانيين، وانهارت العملة الوطنية (الليرة) واستشرت الصراعات، كانت الجمهورية الإسلامية في إيران تسأل وتتقصّى أحوال اللبنانيين، وقررت تلبية المناشدات، «اذهبوا إلى لبنان وانظروا أبنائي ماذا يريدون»، هكذا قال الإمام الخميني، لتخرج إلى النور لجنة «الإمداد» وتشرع بنشاطها لاحتضان العوائل المستضعفة، وهذا ما سنتناوله في العدد القادم.
* نقلا عن : لا ميديا