تسارع الأحداث نحو الانهيار واللاعودة في السودان يستدعي تحديد الأطراف المستفيدة مما يحدق بهذا البلد العربي العريق، بعد اقتطاع جنوبه وحرمانه من ثروته النفطية، نظراً لما يشكله السودان من موقع استراتيجي غني بالموارد الطبيعية، ودولة قوية بقوتها العسكرية وصناعاتها الحربية.
لا يختلف سيناريو السودان مع ما حدث في العراق وسوريا وليبيا واليمن، والهدف هو القضاء على الدولة وتفكيكها، وتدمير جيشها وقدراتها العسكرية والاقتصادية، في ظل بروز لاعبين آخرين مثل الإمارات والسعودية وقطر، الذين يدعمون بسخاء قطبي الصراع على حساب تدمير البلد، وكانت أبوظبي قد بدأت منذ وقت مبكر بشراء أراضٍ شاسعة، تقدر مساحتها بمائة ألف هكتار بقيمة 225 مليون دولار، بحسب ما نشرته صحيفة "نيويورك تايمز"، بالإضافة إلى الدور "الإسرائيلي" في تأجيج الصراع، الذي تدخل بدعوى فرض وقف إطلاق نار، فيما يعمل وبقوة على تفكيك كيان السودان الحالي، بعد نجاح خطوة الغرب وأدواته المحلية في فصل جنوب السودان عن باقي أراضيه.
من الحسابات الخاطئة أن يعتقد البعض أن ما يمر به السودان اليوم، مجرد خلاف بين رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبدالفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو الملقب بحميدتي، فالأمر أكبر من ذلك بكثير، الحليفان السابقان والعدوان اللدودان البرهان وحميدتي وجهان لمشروع غربي واحد، فمنذ سيطرتهما على السلطة تفاقمت مشاكل البلد، وانهار الاقتصاد، واستمرت الاحتجاجات في الشوارع، وعملا معا لإجهاض الثورة الشعبية وإفشال وإقصاء حكومة عبدالله حمدوك، وتنصلا من الاتفاق مع قوى التحالف والتغيير لعودة السلطة للمدنيين وإقامة نظام ديمقراطي.
دائماً ما كان السودان محط اهتمام "إسرائيل" منذ أن شاركت القوات السودانية رسمياً في حرب الجيوش العربية ضد "إسرائيل" في العام 1948، وبدأت أولى خطوات التدخل "الإسرائيلي" في السودان بدعم المليشيات المسيحية التي حاربت الحكومة السودانية في الحربين الأهليتين السودانيتين الأولى عام 1955 والثانية عام 1983، ودخلت الولايات المتحدة الأمريكية على خط الحرب على السودان عندما قصفت في العام 1998، مصنع الشفاء السوداني للأدوية بصواريخ كروز أطلقها الجيش الأمريكي، وبررت إدارة الرئيس بيل كلينتون العملية بالانتقام لتفجيرات السفارة الأمريكية في تنزانيا وكينيا بحجة أن المعتدين استخدموا مواد كيماوية "غاز الأعصاب" صنعت في مصنع الأدوية، وعلى الرغم من ثبوت كذب مبررات الإدارة الأمريكية إلا أنها رفضت التعويض والاعتذار.
وفي ذروة العدوان "الإسرائيلي" على قطاع غزة عام 2009 اتهم السودان "إسرائيل" بشن هجوم على قافلة شاحنات كانت محملة بالأسلحة شرق السودان نتيجة اشتباه بأنها تهرب السلاح لحركة "حماس"، وقتل في الغارة حينها حوالي 119 شخصاً، وحينها أكدت واشنطن الهجوم وحملت "إسرائيل" المسؤولية عن تنفيذه، وبالتزامن مع زيارة رئيس جنوب السودان سيلفا كير إلى "إسرائيل" في ديسمبر 2011 نشرت صحيفة "الانتباهة" السودانية المستقلة خبراً يفيد بـ"قيام إسرائيل بغارتين على شرق السودان لاستهداف منقبي الذهب قبالة الحدود السودانية المصرية"، وفي أكتوبر 2012، وقع انفجار في مصنع اليرموك للذخائر جنوب العاصمة السودانية الخرطوم واتهم السودان "إسرائيل" بالوقوف وراء قصف مجمع الصناعات العسكرية وهدد بالرد في المكان والزمان اللذين يراهما مناسبين.
الى جانب العدوان "الإسرائيلي" والأمريكي المباشر على السودان كانت الحرب الاقتصادية الأمريكية تتصاعد على شكل عقوبات بدأت منذ العام 1988 عندما أعلنت واشنطن فرض عقوبات على السودان بحجة تخلفه عن سداد الديون، وفي العام 1993 أدرجت واشنطن السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، رداً على استضافته زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن عام 1991، قبل أن يغادر الخرطوم عام 1996، تحت وطأة ضغوط أمريكية على السودان، وفي العام 1997 فرضت واشنطن بقرار تنفيذي من الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، عقوبات مالية وتجارية على السودان، تم بموجبها تجميد الأصول المالية السودانية، ومنع تصدير التكنولوجيا الأمريكية له، وألزمت الشركات الأمريكية والمواطنين الأمريكيين، بعدم الاستثمار والتعاون الاقتصادي مع السودان، وعلى الرغم من أن الخرطوم أبرمت اتفاق تعاون مع واشنطن لـ"محاربة الإرهاب" عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، إلا أن العقوبات الأمريكية تواصلت ضد الخرطوم، من خلال تشريعات أصدرها الكونغرس الذي ربط العقوبات بتقدم المفاوضات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، وفي العام 2006 فرض الكونغرس عقوبات ضد الأشخاص المسؤولين عن الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في دارفور، وأعلن الرئيس جورج بوش الإبن حظر ممتلكات عدد من الشركات والأفراد السودانيين، شملت 133 شركة وثلاثة أفراد، بحجة أن سياسات حكومة السودان تهدد أمن وسلام وسياسة أمريكا، خاصة سياسة السودان في مجال النفط.
وفي العام 2012 جدد الرئيس باراك أوباما العقوبات الأمريكية المفروضة على السودان رغم إقراره بأن النظام السوداني حل خلافاته مع جنوب السودان، مدعياً أن الصراعات في إقليم دارفور وغيره مازالت تمثل عقبات خطيرة على طريق تطبيع العلاقات بين واشنطن والخرطوم، وعلى الرغم من إعلان السودان المشاركة في العدوان على اليمن، وإرسال مقاتلين مرتزقة للقتال في الحد الجنوبي للسعودية والأراضي اليمنية في العام 2016 إلا أن إدارة أوباما أعلنت تمديد عقوباتها المفروضة على الخرطوم إلى العالم 2017.
سلسلة العقوبات التي بدأت بمبرر عدم سداد السودان لديونه في العام 1988 لم تنته باشتراط ترامب في العام 2020 لرفع العقوبات، أن تدفع الحكومة السودانية نحو 335 مليون دولار كتعويضات مالية لضحايا تفجيرات السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا وأيضاً المدمرة "يو. إس. إس. كول" التي تعرضت للتفجير عام 2000 أمام الشواطئ اليمنية، وتم اتهام السودان برعاية المنفذين الذين ينتمون إلى تنظيم "القاعدة"، وعلى الرغم من خضوع السودان لاشتراط ترامب وإعلان الحكومة السودانية تحويل مبلغ التعويضات إلى الحكومة الأمريكية، ليبرز اشتراط جديد يفرض على السودان التطبيع مع "إسرائيل" مقابل الرفع النهائي للعقوبات، ورغم الرضوخ الكامل والاستجابة لاشتراطات واشنطن، لم تنته العقوبات ولم يتوقف التدخل الأمريكي في السودان.
كل ما تعرض له السودان من الواضح أنه كان بمثابة تهيئة لما يحدث الآن من تدمير وتفكيك كلي لهذا البلد الذي برز كثالث أكبر قطاع دفاعي في القارة الأفريقية، وكقوة صناعية عسكرية رائدة، كان الغرب ينظر إلى السودان كقوة عربية تربطها بالقضية الفلسطينية صلات كبيرة، وما يقلق القوى الغربية أن القوات الجوية السودانية كانت الأولى إلى جانب الجزائر والمغرب وجنوب أفريقيا، وقدرتها على نشر صواريخ (جو -جو) نشطة موجهة بالرادار، بالإضافة إلى إنتاجها دبابة قتالية رئيسية تنتجها المصانع السودانية، وهي النسخة المطورة من الدبابة الصينية "T96"، حيث يعتبر السودان الدولة الأفريقية والعربية الوحيدة التي تنتج دبابات قتال رئيسية، وجعلته الصناعات العسكرية مصدراً مهماً للأسلحة إلى أفريقيا والشرق الأوسط.
وقد أنتجت هيئة التصنيع الحربي من خلال مصانعها المختلفة الطائرات والمروحيات والمسيرات، وصنعت الأقمار الصناعية وأطلقتها، وأنتجت الدبابات والمدرعات وناقلات الجنود، كما أنتجت الصواريخ والمدافع وكل أنواع الذخائر، فضلاً عن الرشاشات والأسلحة الخفيفة، وصنعت السيارات الصغيرة والشاحنات والجرارات وكثيراً من الآليات الزراعية، وحققت بذلك للسودان اكتفاءً ذاتياً بالأسلحة والمعدات العسكرية، وبعض المنتجات الصناعية ذات الصلة بعملية الإنتاج الزراعي، ووفرت بذلك مصدراً من مصادر قوة الدولة تتجاوز به تحديات الحصار ومحاولات الإخضاع، وأصبحت عائدات بيع تلك المنتجات في أسواق أفريقيا والشرق الأوسط مصدراً من مصادر تمويل ميزانية الدولة، قبل أن يتعرض لضغوط كبيرة من العواصم الغربية لتجريد قواته المسلحة من أصولها الصناعية، بعد التغيير المدعوم من الغرب الذي أطاح بالحكومة السودانية عام 2019.
استخدم المشروع الغربي القوى الطامحة بالوصول إلى السلطة، معتمداً نظرية التفجير من الداخل لاستكمال ما بدأه بالعدوان والحصار، وعمل على دعم مليشيات موازية للدولة بمثابة مرتزقة بدأ باستخدامهم في دارفور وتطور الأمر لإرسالهم في مهام قتالية في اليمن على الساحل الغربي وميدي وعلى الحدود السعودية، وكان لافتاً زيادة عدد قوات الدعم السريع من 17 ألف جندي قتل أغلبهم في صحراء اليمن وسواحلها، إلى أكثر من 120 ألف جندي، وتم خلال فترة وجيزة رفع قدراتها القتالية عبر التدريب الذي وفرته دول وشركات أجنبية، وعبر تطوير تسليحها الذي شهد تطوراً كبيراً من خلال رعاية إقليمية عربية وصهيونية، وسرعان ما انتشرت هذه القوات في كل أرجاء السودان تقريباً، إذ أصبح لهذه القوات قيادة عسكرية في كل ولاية من ولايات السودان تتمتع باستقلال كامل عن قيادة المناطق العسكرية للجيش في الولايات.
لم يكن الاهتمام والدعم الغربي لهذه القوات عبثياً، وإنما كان تحضيراً لمشروع كان عنوانه التغيير نحو الأفضل ولكن نتائجه تمثلت بالهيمنة الغربية على السودان بشكل كامل وإعادة صياغة البلد بطريقة مختلفة، منذ ما سمي "التغيير" في العام 2019 بدأت عملية الاستيطان في دارفور عبر استجلاب مجموعات عربان الساحل الأفريقي من جنوب ليبيا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وتم نقل ما يقارب 4 ملايين مهجر إلى السودان وتوطينهم في دارفور بمدن جديدة مجهزة بالكامل تم استيرادها من خارج السودان، وتم تجنيس ما يصل إلى مليون ومائة ألف شخص بالجنسية السودانية، بعد أن جرى تدمير السجل المدني وإحراقه بالكامل، لدرجة أنه بات من الصعب على المواطن السوداني إثبات جنسيته، وجرى حذف اللغة العربية من دستور الفترة الانتقالية كلغة رسمية للدولة، وحذف تعريف السودان كدولة عربية أفريقية من الدستور نفسه، ثم استبدال المناهج الدراسية بمناهج بديلة تخدم فكرة الاستعمار الجديد، وتخدم عملية التحول الفكري للمجتمع لاسيما الأطفال والناشئة، من خلال حذف كل ما يتصل بالقضية الفلسطينية، والدفاع السوداني ضد بريطانيا، وحذف كل دروس التربية الإسلامية والمسيحية أيضاً.
بعد ذلك جاء الدور على البنية التحتية للدولة وتدميرها بشكل ممنهج، مع استهداف مباشر لمحو الذاكرة التاريخية للسودان من خلال تدمير المتاحف، وإتلاف الدار القومية للوثائق، والمراكز الأكاديمية في الجامعات، وتدمير المصانع وإحراق مكائن وخطوط الإنتاج، وحرق الأسواق الكبيرة في الخرطوم، ونهبها، وسرقة البنوك وصناديق الأمانات فيها، وحرق أشجار النخيل.
كل ما يجري اليوم في السودان لم يكن التغيير الذي أراده الشعب، ولكنها الإرادة الغربية التي تستخدم تقنيات الجيل الجديد من الحروب الناعمة، للوصول إلى ما عجزت عن تحقيقه بالحروب الصلبة، مستغلة حالة التململ الشعبي من سوء الإدارة والفساد والفقر والجوع، فهل تتعظ الشعوب الأخرى، وتستفيد الأنظمة العربية الحاكمة من الحالة السودانية، التي لا تعتبر من الماضي البعيد وروايات الكتب التاريخية، وإنما هي واقع يجري اليوم على أرض عربية كانت يوماً ما قوية وعصية على "إسرائيل" وأمريكا وكل حلفائهم؟
* نقلا عن : لا ميديا