قد دفعنا جميعا الثمن غاليا خلال تسع سنوات، لكي لا نعيش رخاصاً ومهانين. وبعد تسعة أعوام من العدوان والحصار على بلدنا اليمن، جاءت الهدن لتبقى سياسة التجويع متحكمة في كل شيء، والجوع هو صراع البقاء أو الموت، وهو الفك المفترس، وهو الطاعون، بل هو أكبر من ذلك بكثير؛ ذلك لأنه لا يقتصر فقط على الصراع من أجل الحياة بل يزداد نقمة، إذ نتحول جميعا في سياقه إلى أدوات بشرية متوحشة، نتقاتل على لقمة خبز، أو أكثر نهما من مجرد الجوع العادي، وليس أمامنا من حل إلا أن نركن التضحيات والبطولات والأعداء جانبا لنفعل كل شيء لسد الرمق، وهذا هو ما يريده العدو منا تحديدا، أن نتقاتل ولا نقاتله. لذلك علينا أن نعي جيدا أنه في مسألة الجوع هناك دول ومؤسسات شكلية تتنافس على حق الحياة اليمنية بالحصار والعدوان والقتل وأخرى بالسرقة والنهب والفساد.
الحقيقة هنا أنني لا أريد أن أترفق أكثر فأهدئ من روع الناس بما ينتظرهم إذا بقوا على هذه الحالة صامتين، ودون أن يطالبوا ببناء مؤسسات دولة يمنية حقيقية توفر لهم ما يسد الرمق، ولو تطلب الأمر الخروج بالدعوة الشعبية والتفويض الشعبي للقيادة والجيش اليمني بضرب العدو في كل مفصل حتى يوقف عدوانه ويفك حصاره، لأن الجوع كما يقولون كافر، لا يؤمن بشيء، ولا يهدأ إلا بسد الرمق، والمثل يقول: «إذا جاعت البطون تاهت العقول»، وهذا يعني احتلال العقل بالفوضى، أي تدمير الوعي، وتمرد السلوك والأخلاق والقيم والمشروع الثوري. ولذلك أرى أنه لا استثناء في القاعدة مطلقا، فالجوع هو البطل الشرير المتحكم في كل شيء، قد يمنعه الضعف من ارتكاب جريمته فيموت دون تضحية، لأن هناك فرقاً بين الجوع والشبع، فكلاهما يؤدي في بعض الوقت إلى فساد الأخلاق، فاللهو بالشبع مفسدة، لكن الجوع كارثة، وشتان بينهما. وصحيح أن الدين هنا جزء أصيل من حياة البشر، ولا ينكر دوره وأهميته إلا عديم عقل.
من المعلوم هنا أن المشكلة ليست في الدين بقدر ما هي في من يحاولون إخراج الدين من دوره ليمارس أدوارا أخرى ليست منه وليس منها، وهناك مقولة شهيرة تقول: «لو عالج الطبيب جميع المرضى بنفس الدواء لمات معظمهم»، لذا لا يمكن أن نقحم الدين فيما يخصه وما لا يخصه، لا يمكن أن نقحم الدين والتدين في مسألة العلوم الإدارية والاقتصادية إلا من باب الأخلاقيات.
يا سادتي، إن أزمتنا السياسية تكمن في النخبة القديمة التي لم تعد صالحة، وكذلك الجديدة ما زالت غير مؤهلة. نحن في اليمن سوف نتطرف يمينا أو نتطرف يسارا، لا وسط ولا اعتدال، وهذا راجع بالأساس لكون بيئة التجويع متطرفة وغير معتدلة. ربما تكون الأحداث والظروف هي التي ستدفعنا لحالة من التطرف هذا، إلا أن النتيجة في النهاية هي أن الغالبية العظمى سوف تكون متطرفة، أياً كانت الجهة التي يتحرك فيها هذا التطرف، والسماح باستمرار الجوع والتجويع والحصار سوف يخلق لنا بيئة ومناخاً للتطرف القذر، ذلك التطرف الذي لا يرى أمامه سوى كيف يأكل فقط ولو على حساب جميع قضاياه.
* نقلا عن : لا ميديا