لطالما كان الصراع حول الممرات التجارية هو السمة السائدة للحروب التي جرت في التاريخ الإنساني، وكان تبدل الطرقات وتغير مسارها يعني سقوط إمبراطوريات خسرت الهيمنة التجارية وظهور إمبراطوريات أخرى مسيطرة، وهذا سر التبادل التاريخي للأدوار بين الإمبراطوريات البرية والإمبراطوريات البحرية في التاريخ. وعلى هذا الأساس ظهرت مدرستان في الجغرافيا السياسية: القارية، والبحرية، بنسخهما البريطانية والألمانية والأمريكية، والنسخة الجديدة القارية الأوراسية التي تتبناها جمهورية روسيا الاتحادية.
وفي التاريخ الراهن، تهيمن الولايات المتحدة وبريطانيا والغرب عموماً على التجارة الدولية، وعلى الطرق البحرية التي تنتشر فيها الأساطيل البحرية الأمريكية. ومع ظهور الصين كقطب اقتصادي جديد تشتد المنافسة بين القوى الاقتصادية العالمية، وخصوصاً في منطقة الخليج الفارسي والبحر العربي وباب المندب وقناة السويس وخليج العقبة وموانئ الكيان الصهيوني في شرق المتوسط خصوصاً حيفاً، وميناء بيروت - الذي ضرب، وكذلك الطرق البرية الواصلة بين الإمارات عبر السعودية والأردن. هذه الجغرافيا باتت محط تنافس بين الأقطاب الاقتصادية، وبالتالي غدت مهددة بالنزاعات والتدخلات العسكرية، وهو ما نراه في فلسطين وعسكرة البحر الأحمر، وكذلك مشاريع التطبيع، وجهود مقاومة هذه المشاريع الغربية الصهيونية.
في قمة العشرين في الهند العام الماضي أُعلن عن مشروع الممر الاقتصادي الذي يربط الهند بأوروبا عن طريق "الشرق الأوسط" (الهند، الإمارات، السعودية، الأردن الكيان الصهيوني، اليونان)، وهذا الطريق في حالة تجريبية الآن إذ تمر عبره مقادير بسيطة من التجارة الصهيونية في محاولة لتجاوز الحصار المفروض على الصهاينة من جنوب البحر الأحمر.
الأهداف الجيوسياسية الرئيسية وراء تنفيذ الممر الاقتصادي الجديد لدى صانعي القرار في الولايات المتحدة وأوروبا تتمثل في الدخول في تنافس مع مبادرات البنية التحتية العالمية التي تقودها الصين بهدف الحد من نفوذها وتعزيز نفوذ واشنطن في "الشرق الأوسط".
الهند أيضاً مستفيد من المشروع؛ لأنه سوف يضعها في قلب الحركة التجارية المارة من جنوب شرق آسيا إلى "الشرق الأوسط" وأوروبا، مما يمنحها مزايا استراتيجية واقتصادية.
الممر الاقتصادي الجديد المزمع إنشاؤه هو ضربة لقناة السويس وسيساهم في إفقار مصر رسمياً عبر حرمانها من دخل قناة السويس، كما أنه يُفقد اليمن جزئياً أهمية باب المندب، فإذا تحولت التجارة بعيداً عن قناة السويس فلن تمر أصلاً من البحر العربي وخليج عن والبحر الأحمر، وهو ما يفقد اليمن الموقع الاستراتيجي السياسي العسكري، والفرص الاقتصادية لسواحل اليمن الممتدة من مدخل المحيط الهندي إلى جنوب وغرب البحر الأحمر.
للحرب الراهنة على غزة ارتباط بهذا المشروع، فمن المطلوب ضرب المقاومة الفلسطينية، وتصفية القضية الفلسطينية وفرض الحلول الأمريكية، للتمهيد لمشروع التطبيع السعودي الأمريكي، كما أنه من المطلوب ألا يكون هناك قوة عسكرية قادرة على اعتراض المشروع، ومن ضمن ذلك المقاومة الفلسطينية وحزب الله اللبناني، تحت مفهوم "الاندماج الإقليمي" وهو ما تروج له الولايات المتحدة والسعودية هذه الأيام، ولهذا السبب أي لهذا الدور الوظيفي الهام الذي يقوم به كيان الاحتلال بالنسبة للغرب، هرعت الحكومات الغربية إلى دعم الكيان الصهيوني منذ الأسبوع الأول لـ"طوفان الأقصى".
ورغم خطورة هذا المشروع على النقل البحري يظل هو الأقدر على استيعاب التجارة العالمية؛ إذ لا يقارن بخطوط القطارات، وبالتالي فإن أهمية البحر الأحمر ستبقى. ومما لا شك فيه أنه حال تنفيذ المشروع سيخسر جزءاً كبيرا من التجارة العالمية التي كانت تعبر منه، كحال "رأس الرجاء الصالح" بعد فتح قناة السويس.
من ناحية أخرى فالصين تقاوم هذا المشروع، وهو سر موقفها الإيجابي تجاه اليمن وفلسطين في معركة "طوفان الأقصى"، وبالنسبة للصين أيضاً فهي تمتلك شركات تستحوذ على نسب كبيرة من حق إدارة وتشغيل موانئ خط الهند الشرق الأوسط أوروبا وبالتالي لا يمكن إزاحتها تماماً، إلا أنها لن تقبل بحصة صغيرة وستظل تدافع عن مشروع "الحزام والطريق" فحجم نمو ناتجها الإجمالي المحلي وآفاقها الاقتصادية يفرض عليها ذلك.
صمود "محور المقاومة" وفصائلها، انحياز مصر نحو الشرق، واستمرار الضغط الشعبي الأردني لرفض التطبيع الاقتصادي، سيادة إيران في الخليج بالقرب من الإمارات، عدم وجود تركيا في المشروع، والضعف العسكري النسبي الأمريكي، وتنامي العلاقات الصينية الخليجية السعودية الإيرانية، كل ذلك من شأنه أن يعيق تنفيذ هذا المشروع بالشكل الطموح المخطط له، وفي ظروف منطقتنا فإن المشاريع الاقتصادية لا تنجح أو تفشل فقط للجدوى الاقتصادية، إنما يكون نجاحها وفشلها مرتبط بالظروف السياسية العسكرية، وفي ظروف كهذه لا يمكن التنبؤ بشكل دقيق بمصير هذا المشروع الأوروبي أو المشروع الصيني النقيض، وتظل المعادلات العسكرية السياسية صاحبة التأثير الأكبر.
* نقلا عن : لا ميديا