تشكّلُ منطقةُ البحر الأَحْمَــر وخليج عدن أهميّةً استراتيجيةً اقتصاديةً وأمنية متشابكة لكلٍّ من مصر والسعوديّة والسودان والكيان الصهيوني إلى جانب القوى الإقليمية مثل تركيا وإيران، إضافة إلى القوى الكبرى كالولايات المتحدة والصين. إقامةُ الصين أول قاعدة بحرية لها في الخارج – في جيبوتي – تشيرُ إلى اهتمامها الاستراتيجي بالمنطقة وبشكل خاص لمشروعها طريق الحرير الجديد (الحزام والطريق). فخلال الحرب الباردة كان للولايات المتحدة والاتّحاد السوفياتي مصالحُ مشتركة في الحفاظ على سلامة الممرات البحرية في السويس وباب المندب، لكن هذا التوافقُ الدولي مفقودٌ حالياً، مما يضع المنطقة عرضةً للمنافسة بين الأقطاب والدول الناهضة. تم الإعلانُ عن إنشاء “كيان دول البحر الأَحْمَــر” في منتصف ديسمبر 2018م، والذي يضم الدول المشاطئة للبحر (المملكة العربية السعوديّة، مصر، السودان، الأردن، الصومال، جيبوتي، حكومة هادي)، وهذا التجمع ليس وليدَ اللحظة، بل له جذور تأريخيةٌ متقدمة فسبق أن قدمت كُلّ من السعوديّة ومصر، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، مقترحاتٍ لإنشاء “منتدى البحر الأَحْمَــر”، وقد نادى مبعوثُ الاتّحاد الأوروبي للقرن الأفريقي – مؤخراً – لإحياء مشروع “منتدى البحر الأَحْمَــر” انطلاقاً من أهميّة الممرات البحرية للاقتصاد الأوروبي.
كما إن التدريباتِ العسكريّةَ التي أجرتها القواتُ المصرية مع عدد من دول المنطقة على رأسها الأردن تحت عنوان “مناورات العقبة”، ومع السعوديّة تحت مسمى “النجم الساطع”، ومع الإمارات باسم “زايد”، كُلّ هذه المناورات أتت في إطَار هذا التحرك الذي يهدف إلى تدشين كيان موحد يجمع الدول المطبعة مع الكيان الصهيوني والتي تقود “صفقة القرن” لتصفية القضية الفلسطينية. كما أن مساعي السعوديّة والإمارات للمصالحة بين إثيوبيا وإريتريا التي جرت عبر موجة من المفاوضات بحضور الأمين العام للأمم المتحدة ومفوض الاتّحاد الإفريقي، جاءت كذلك في هذا الاتّجاه. تجدُ مصرُ رغبةً في المشاركة في الكيان الجديد الذي يقعُ ضمن المجال الحيوي للأمن القومي المصري، وترعاه الولاياتُ المتحدة، ويظهر –الكيانُ- أمام شعبها بأنه ليس موجهاً ضد إيران بشكل مباشر خدمة لدول الخليج، إنما تبدو مهمتُه حمايةَ أمن الممرات البحرية الذي يُعد هدفاً استراتيجياً مصرياً، وحاجة اقتصادية للقاهرة في إطَار التنسيق بين الدول المشاطئة.
دوافعُ قيام هذا التكتل:
عرض المؤتمرُ دوافعَ اقتصادية أهمُّها قيامُ فرص استثمارية على شواطئ هذه الدول، إنما لا يُمكِنُ فصلُ هذا الجانب – الاقتصادي – عن الجانب السياسي العسكريّ الذي يتفوق من حيث الأهميّة على الدافع الاقتصادي. ألا وهوَ استشعار السعوديّة وجود خطر يتهددها من سواحل البحر الأَحْمَــر وخليج عدن، كما أنها تعتبر وجود قوات الجيش واللجان الشعبية اليمنية في مياه البحر الأَحْمَــر اليمنية “تهديداً جدياً” لها.
ففي أكتوبر الماضي بعد العملية (الدفاعية) لقوات البحرية اليمنية في ميناء جيزان في إطَار حق الرد على العدوان، قامت القوات السعوديّة بعملية عسكريّة أخذت زخماً إعلامياً واسعاً أسمتها “الضفادع البشرية”، ويبدو أن تلك العملية أظهرت ضعفَ القوات البحرية السعوديّة التي ردت بعملية الضفادع البشرية. كما تسعى السعوديّة لاستباق منح السودان جزيرةَ “سواكن” – الواقعة في البحر الأَحْمَــر- لتركيا.
كما هي خطوة في سياق مواجهة الرياض للنشاط القطري التركي في البحر الأَحْمَــر.
وفيما يتعلق بالهواجس الأمنية السعوديّة إقليمياً، ترى الرياض أن طهرانَ تحاولُ كسرَ احتكارها للبحر الأَحْمَــر، في حال تم إغلاقُ مضيق هرمز في الخليج بسبب أي نزاع عسكريّ. وفيما يتعلق بالتوجهات الأمريكية وعلاقتها بهذا الكيان، فيذكر أن إدارةَ ترامب دعت دولَ المنطقة الموالية لها مراراً للدخول في تكتلات عسكريّة وأمنية مثل ما يسمى حالياً بـ “الناتو العربي”، وسيمثل تمويل السعوديّة لتسليح هذا الكيان بسلاح أمريكي طريقةً أمريكية جديدة لجباية ريع النفط السعوديّ.
الهدف السياسي لكيان البحر الأَحْمَــر بقيادة السعوديّة:
بات من الضروري بالنسبة للسعوديّة القيامُ بترتيب إقليمي جديد، بعد فشل تحالفها العدواني على اليمن وتصدع مجلس التعاون الخليجي، والتوجّه النسبي لدولة قطر باتّجاه تركيا وإيران، وهذا يُعد أحد أهداف تشكيل الكيان، وتحاول السعوديّة عبر بناء التكتلات أن تظهر دائماً بمكانة القائد وأن تربط مصيرها بمصير تكتلات وأن تستند إلى محاور لتعويض الضعف الداخلي الذي تواجهه.
وكذلك تسعى السعوديّةُ إلى إغلاق المنطقة كبحيرة إمبريالية صهيونية واحتواء القواعد العسكريّة الفرنسية والصينية في جيبوتي، وذلك من خلال التقليل من فاعلية تلك القواعد؛ بسبب انضمام جيبوتي طوعاً أَو كرهاً إلى هذا التكتل “الأمريكي”، وذلك في إطَار في مواجهة انتصارات محور المقاومة في العراق والشام، وكذا المزاحمة مع دول الاتّحاد الأوربي في إطَار صراع الضواري الامبريالية.
كما تحاولُ الدبلوماسية السعوديّة جذب دول تحتفظ بعلاقات مع إيران، مثل الصومال وجيبوتي والسودان، إلى الكيان الجديد عبر تقديم مساعدات إزالة الصورة البارزة من المقالةاقتصادية واستثمارات لهذه الدول الفقيرة، ضمن هذا الكيان، بما يدفع للتأثير سلباً على علاقاتها مع إيران.
يأتي إنشاء هذا الكيان أيضاً في إطَار التمهيد لموجة تطبيع جديدة مع الكيان الصهيوني، بحجة اشتراكه مع دول التكتل بالمُشاطئة في البحر نفسه، وبحجة قربه من مشاريع السعوديّة السياحية الضخمة كمدينة نيوم التي أعلن عن إطلاقها العام الماضي.
الوجودُ الإسرائيلي في البحر الأَحْمَــر:
الوجودُ الصهيوني قديمٌ وله علاقةٌ بباب المندب، وهو من الاستراتيجية الصهيونية من بعد حرب 73 بعد أن تم إغلاقُه من قبل القوات المصرية واليمنية.
كما أن مخططَ مشروع القناة الثانية المنافسة لقناة السويس بين البحر الأَحْمَــر والمتوسط الذي يعد مشروعاً استراتيجياً يرتبط بـ “تأمين” باب المندب. وحين أعلنت السعوديّة أن الكيان يهدفُ لحماية واستقرار جيرانها، كان في ذلك إشارة للكيان الصهيوني. من جانبها أعلنت سلطة المطارات في دولة الاحتلال الإسرائيلية، مطلع هذا الشهر، أنه من المتوقع افتتاح ثاني مطار دولي بإسرائيل قرب منتجع إيلات المطل على البحر الأَحْمَــر في 22 يناير.
ويذكر أنه حين قصفت (حماس) عام 2014 مطار بن غوريون في تل أبيب أُلغيت الرحلات الدولية لعدة أيام.
وتأمل “إسرائيل” أن يساعد المطارُ الجديد في تعزيز السياحة إلى إيلات.
البحرُ الأَحْمَــرُ يشهدُ مناوراتٍ عسكريّة دولية كبرى:
عقب إنشاء التكتل أجرت قوات عسكريّة من السعوديّة ومصر والأردن والسودان وجيبوتي واليمن والصومال، فعاليات التمرين البحري المختلط “الموج الأَحْمَــر1” في مقر قيادة الأسطول الغربي السعوديّ، وكان من أهدافه المعلَنة رفعُ القدرة القتالية لمختلف العمليات البحرية وتوحيد المفاهيم التكتيكية للقيادة والسيطرة كما شمل التمرين سيناريوهات متنوعة.
في سبتمبر 2018 قامت الولايات المتحدة الأمريكية بأكبر عملية مناورات عسكريّة في البحر الأَحْمَــر وقال موقع “ديبكا” الاستخباراتي الإسرائيلي، نقلا ًعن مصادر عسكريّة: “بأن هذه التدريبات هي الأولى من نوعها، وتتركز على احتمالات اندلاع مواجهة عسكريّة شاملة، أَو محدودة ضد إيران، والهدف من هذه التدريبات يتمثل في كيفية التعامل مع احتمالات قيام قوات البحرية الإيرانية بإغلاق منفذَين بحريين حيويين، وهما مضيق هرمز في الخليج، وباب المندب في البحر الأَحْمَــر، مقابل السواحل اليمنية.
وقد شهد البحر الأَحْمَــر خلال شهر ديسمبر من العام الماضي أكبرَ عمليات مناورات في تأريخه فقد قامت السودان بعملية مناورات كبرى على ساحل البحر الأَحْمَــر شاركت فيها القوات البحرية والبرية والجوية. كما قامت مصر وفرنسا بعملية مناورات عسكريّة ضخمة.
في يوليو من العام الماضي قامت الولايات المتحدة الامريكية ومصر والإمارات والسعوديّة بمناورات محدودة في البحر الأَحْمَــر.
علاقةُ الكيان بـ “الناتو العربي”:
قبل فترة أثير الحديثُ عن ما أطلق عليه “الناتو العربي” وهو الكيانُ العسكريُّ المفترَضُ تكوينُه من عدد من الدول الخليجية والعربية بدعم أمريكي إسرائيلي، وتوجيهه نحو محور المقاومة وفي مقدمته جمهورية إيران الإسلامية، ويرى مراقبون بأن الكيانَ الجديدَ ربما يكون بديلاً عن الناتو العربي، وهذا الكيان يوجد ميزات منها، أن الكيان الجديد ربما يزيل الحرج المصري والأردني بشأن المشاركة في ناتو يهدف إلى حماية أمن الخليج في المقام الأول في مواجهة إيران، وخاصةً أن الكيان الجديد يتماشى مع الأهداف السعوديّة والإماراتية اللتين تعتبران ساحل القرن الإفريقي امتدادًا “لأمنهما القومي”.
التداعياتُ المحتملةُ للتكتل تداعياتٌ مباشرة على الملف اليمني عسكريّاً وفيما يتعلق بإطباق الحصار، وتحويل معركة العدوان في الساحل من غزو إلى معركة تكتل إقليمي يدافع عن أمنه واقتصاده وإيهام شعوب هذه الدول بأن الحربَ الإمبريالية التي تخاض ضد اليمن إنما هي معركة وطنية تخصهم.
القراءةُ الأولية تشكّكُ في نجاح هذا الكيان الجديد، أَو توجهه ليصبح أزمة في منطقة القرن الأفريقي؛ وذلك لأن هذا الكيان شهد غياب دولتين مؤثرتين في أمن البحر الأَحْمَــر والقرن الإفريقي، وهما إريتريا المطلة مباشرة على البحر الأَحْمَــر، وإثيوبيا صاحبة التأثير الأكبر في منطقة القرن الإفريقي والتي توترت علاقاتها مع الرياض بصورة كبيرة خلال الفترة الأخيرة، وهو ما يمثل أزمة يمكن أن تشهدها هذه المنطقة الساخنة إذا ما لجأت الدول الأخرى من أصحاب المصالح بالبحر الأَحْمَــر، مثل تركيا وإيران وقطر، لتشكيل كيان موازٍ يضم إريتريا وإثيوبيا..، أو العمل على اختراق هذه الآلية وإجهاضها من خلال علاقاتهما الجيدة مع بعض الدول، عن طريق تقديم مساعدات مالية وعسكريّة.