“ ليتني ما اصبحت كاتباً, ليتني تعلمت صنعة مفيدة” واشتغلت نجاراً ولم تصبني لعنة الأدب”
لست قائل هذه المقولة, ولن تسمعوا مني مثلها حتى وإن عشت على الكفاف وإن دعوت الله سبحانه كما كان يدعوه السيد المسيح بقوله “ خبزنا كفافنا اعطنا اليوم” ومن صدرت منه هذه المقولة هو واحد من أشهر الأدباء العرب, انه الروائي السوداني الطيب الصالح.. واعتقد أنها قد صدرت منه لسببين, أولهما أنه أراد التعبير عن معاناته تحت وطأة ظروف قاسية, وأما الثاني فيكمن فيما دفعه لأن يصحح المقولة العربية المتداولة منذ القديم والقائلة “ لقد ادركته حرفة الأدب” اي أن من يحترف الأدب لا مناص له من أن يدركه الفقر والتعاسة والخصم القادر على إيذائه..
فأراد الطيب صالح أن يجعل منها لعنة تلاحق صاحبها كلعنة الفراعنة الاسطورية فاستبدل كلمة “حرفة” بـ “لعنة” لتصبح هكذا “ لقد ادركته لعنة الأدب”.
إن مقولة : لقد ادركته حرفة الأدب لم تأت من فراغ او تندر بل من تجارب وأمثلة مستمدة من معاناة غالب من يشتغلون بالأدب – بكل فروعه- وما يتعرضون له من متاعب ومضايقات وسوء حظ .. إلخ, وما اكثر الأمثلة على ذلك.
ولكن نشير هنا إلى كيف كان الناس يستغربون أو يستنكرون إذا ما رأوا مشتغلاً بالأدب وقد تحسنت أحواله أو ظهرت عليه علامة من علامات النعمة وحسن الطالع, وكيف كان هذا الأديب يضطر إلى تبرير ذلك والدفاع عن نفسه..
فهذا الحريري صاحب أشهر المقامات العربية “ هو أبو القاسم محمد الحريري عاش ما بين القرنين 12,11ميلادية عندما استغرب الناس علامات النعمة التي ظهرت عليه يبرر ذلك بقوله “ لو احتجنا بصلة ما الفنا مسأله” بمعنى أنه ما احتاج شيئاً وإن كان يسيراً, لما استطاع ان يتفرغ لما ابدعه في كتابه “المقامات” وكأنه يشير بذلك إلى الشاعر الذي سئل عن سبب توقفه عن الشعر فقال “ أغنى عن الشعر الشعير” أي سعيه لطلب القوت.. هذا قديماً اما حديثاً فنستشهد بشيء مما تركه لنا الأديب النابغة زكي مبارك وكذلك العملاق عباس العقاد, يقول زكي مبارك: لقيني الشاعر عباس العقاد يوماً فقال لي: قد نفيناك عن فردوس الأدب يا زكي , قلت له وما سبب هذا النفي يا حضرة الاستاذ فأجابني لأنك بنيت بيتاً في مصر الجديدة والأدب لا يعرف مثل هذا الثراء فاعتذرت له عن ذلك وقلت له: إن شهرتي بالأدب هددت سمعتي المالية, فكان من واجبي ان ابني بيتاً ولو بالتقسيط لتحسين سمعتي.
بهذه العبارة الطريفة التي لا تخلو من سخرية يبرر الأديب زكي مبارك ما طرأ عليه من علامات الثراء أو تحسن الحال, وإنه ما اراد إلا ان يحسن سمعته لدى من لا يثقون في القدرة المالية لمن ادركته حرفة الأدب, وهذا ما نجده حتى عند الشعراء الذين جالسوا ومدحوا الملوك ونالوا شيئاً من عطاياهم كأمير الشعراء أحمد شوقي الذي وصل به الحال ان يكتب قصيدة لأبنه علي ينصحه فيها ألاّ ينحو منحى والده أو ألاّ يحترف الأدب وقد جاء فيها:
لا تقل كان أبي إياك ان تحذو حذوه أنا لم اغنم من الناس سوى فنجان قهوة
هكذا قال شوقي لابنه وهناك الكثير من شواهد هذا الامر فهل كان الطيب صالح محقاً عندما جعل من النحس المصاحب لحرفة الأدب لعنة تلاحق الأدباء حتى من تبسم له الحظ منهم من وجهة نظري ارى ان الامر كذلك وارشد من يخالفني الرأي ان يقرأ سير الأدباء والشعراء من ابي الطيب المتنبي إلى عباس المطاع ويحيى البشاري وسيعرف لماذا قال الأديب الروائي الطيب صالح مقولته الآنفة الذكر “ ليتني ما أصبحت كاتباً..”.