بعد الانتصارات التي حقّقها الجيش الروسي المدعوم بمسلحي مجموعة "فاغنر" في العديد من جبهات القتال، والتي دفعت واشنطن للضغط على حليفاتها الأوروبيات وفي مقدمتها برلين ولندن للاستعجال في إرسال الدبابات المتطورة إلى أوكرانيا، اكتسب الموقف التركي أهمية أكثر ولاسيما مع اقتراب موعد الانتخابات في الرابع عشر من أيار/ مايو.
فالجميع يعرف أن الرئيس أردوغان يحتاج إلى العديد من القضايا الساخنة على الصعيدين الداخلي والخارجي للاستفادة منها في حملته الانتخابية التي أطلقها مبكراً. وبدليل أنه استغل حادث إحراق نسخة من القرآن الكريم أمام السفارة التركية في العاصمة السويدية ستوكهولم فشنّ ومعه الإعلام الموالي هجوماً عنيفاً ضد "الغرب الصليبي" في محاولة منه لشحن الشعور القومي والديني لدى أتباعه وأنصاره ومعروف عنهم أنهم يتأثرون بمثل هذه المقولات التي يلجأ إليها أردوغان دائماً.
كما استغلّ أردوغان هذا الحادث ليضرب أكثر من عصفور بحجر واحد عندما أعلن تجميد مباحثات انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف الأطلسي (الناتو) وهو ما سيتراجع عنه بعد الانتخاب، بحسب رأي المعارضة. ومن دون أن يكون لقرار التجميد هذا أي ردّ فعل جدي من واشنطن وعواصم الحلف، والسبب في ذلك أن هذه العواصم لا تريد لأردوغان أن يتمادى في تحالفه مع الرئيس بوتين الذي سبق لأنقرة أن اتخذت العديد من المواقف المؤيدة له أو المتضامنة معه في أزماته مع الغرب بسبب الحرب في أوكرانيا.
التجاهل الأمريكي والأوروبي لحوار أردوغان مع الرئيس بوتين الذي قيل إنه قدّم ويقدّم مساعدات مالية كبيرة لتركيا يبدو واضحاً أنه سيشجّع أردوغان على مزيد من التصعيد في علاقاته مع الغرب، طالما أن مقولات العداء له كانت ومازالت مادة دسمة في جميع حملاته الانتخابية.
ويرشح ذلك الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة لمزيد من هذه المقولات مع التصعيد المقصود من قبل أردوغان ضد أمريكا التي بسكوتها على الموقف التركي ستدعم حسابات أردوغان الإقليمية والدولية وبشكل خاص في سوريا.
ومع استمرار الأحاديث المختلفة عن احتمالات المصالحة بين أردوغان والرئيس الأسد بوساطات روسية وإماراتية وإيرانية، فالجميع يعرف أن التصعيد الخطير في أوكرانيا بما في ذلك احتمالات استخدام الأسلحة النووية التكتيكية سيعني في نهاية المطاف أن لا أحد سيضغط على أردوغان في موضوع المصالحة، كما أن لا أحد في الغرب يريد المزيد من التوتر في العلاقة معه، هذا بالطبع إن لم يكن أردوغان هو الذي يخطّط للخروج من تحالفات تركيا التقليدية مع الغرب الأطلسي والدخول في حوار ساخن مع العدو التقليدي والتاريخي روسيا.
وهو الاحتمال الضعيف جداً إن لم نقل المستحيل، ولذلك الكثير من الأسباب التكتيكية منها والاستراتيجية وأهمها التاريخية والقومية. وفي هذه الحالة لن يستعجل الرئيس أردوغان المصالحة مع الرئيس الأسد كما أنه سيتهرّب من استفزاز واشنطن في شرق الفرات على الرغم من اتهاماته المتكرّرة لها باحتلال الشرق السوري ودعم وحدات حماية الشعب الكردية وهي الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي.
وبالمقابل لا ولن يفكّر أردوغان بتقديم كل التنازلات المطلوبة منه في الملف السوري عموماً وبشكل خاص في إدلب على الرغم من حديث بعض الأوساط العسكرية عن تحركات تركية في هذا الاتجاه، ولكن من دون أي موقف عملي طالما أن موسكو بدورها لا تريد مضايقة أردوغان في هذا الموضوع وفي هذه المرحلة الحساسة بالنسبة لها. فالرئيس بوتين بحاجة لأردوغان وجغرافياً لتركيا الحساسة والاستراتيجية بعناصرها المهمة، أي البحر الأسود ومضيقي البوسفور والدردنيل.
الرئيس أردوغان الذي نجح حتى الآن في الاستفادة من مجمل التناقضات الإقليمية والدولية يبدو أنه مازال الأكثر حظاً في تعاملات الغرب وروسيا مع تركيا، وكما هو الحال عليه مع العواصم العربية التي صالحها ولكنها لم تضغط عليه لإنهاء الأزمة السورية بسبب الخلافات العربية -العربية ودخول "تل أبيب" على الخط واستمرار التآمر الأمريكي والغربي و"الإسرائيلي" والخليجي على إيران، وهو ما يجعل من تركيا عنصراً مهماً في حسابات هذا الرباعي التقليدي.
وهي الحقيقة التي انتبه إليها أردوغان ليستمرّ في سياسات التوازن التي يريد لها أن تخدم مشاريعه ومخططاته وعلى الأقل حتى الانتخابات المقبلة، ويعرف الجميع أن تركيا ستشهد قبلها الكثير من المفاجآت المثيرة على صعيد السياستين الداخلية والخارجية. وسيكون التوتر والتصعيد من أهم سمات هذه السياسات ومن دونها لن يحالفه الحظ لتحقيق انتصاره الصعب على تحالف المعارضة، ومازالت استطلاعات الرأي ترجّح فوز مرشحها المنافس عليه. وهذا ما سيزيد من حدة وشدة الحملة الانتخابية التي استنفر أردوغان من أجلها كل إمكانياته وإمكانيات الدولة ومهما كلّفه ذلك طالما أن هذه الانتخابات ستكون مصيرية بالنسبة له ولتركيا وبالتالي لكل من وضع وسيضع حساباته الخاصة في هذا البلد الاستراتيجي.
وسيدفع مثل هذا الاحتمال العديد من الدول والقوى الإقليمية والدولية للتدخّل في الانتخابات التركية بشكل مباشر أو غير مباشر مع أو ضد أردوغان، وهو ما قد يجعل من تركيا ساحة للصراعات المثيرة بكل انعكاساتها وتفاصيلها السياسية والمالية بل حتى العسكرية والأمنية.
باختصار، المصالحة وبالتالي الحل في سوريا مؤجّل إلى مرحلة ما بعد الانتخابات التركية، بأردوغان أو من دونه. وهو التاريخ الذي سيصادف التصعيد الخطير في أوكرانيا مع المعلومات التي تتوقّع مواجهات خطيرة مع نهاية الشتاء، وقبله وبعده سيكون هناك عالم جديد بكل عناصره المثيرة التي سيكون لتركيا دور مهم فيها مع أو ضد الغرب.
وستحدّد نتائج هذه المواجهات ماهية هذا الدور بانعكاسات ذلك على مجمل التطورات الإقليمية والدولية وإن بقي أردوغان في السلطة فسوف يؤثر فيها بشكل مباشر سلباً كان إم إيجاباً. وأما إذا هزم في الانتخابات فالأمور ستكون معقّدة بالنسبة للجميع لأن البديل له هو تحالف من 6 أحزاب والاتفاق في ما بينها لن يكون سهلاً في مجمل قضايا السياسة الخارجية، ولكن أهمها الأزمة السورية والعلاقة مع موسكو وواشنطن التي لم ولا تخفي انزعاجها من سياسات أردوغان ولن تخفي فرحتها بالتخلّص منه.
هذا بالطبع إن لم يكن الجميع يمثّلون في مسرحية المضحك المبكي بفصولها الدموية في سنوات ما يسمّى "الربيع العربي"، وكان لأردوغان ومازال الدور الأكبر والأهم فيها منذ البداية وحتى النهاية، التي لا يدري أحد متى ستكون.
باحث علاقات دولية ومتخصص بالشأن التركي
* نقلا عن : لا ميديا