منذ زيارة السفير السعودي محمد آل جابر الأخيرة، قبل ما يقارب الشهرين، إلى العاصمة صنعاء، لم تقدم المملكة على أي خطوة تجعلنا نشعر بأن ثمة رغبة حقيقية بالتوجه نحو التقاط فرص السلام المتاحة. ويبدو أن كل التحليلات التي ذهبت باتجاه الاعتقاد بأن السعودية جادة في رسم سياسة جديدة لعلاقاتها الخارجية قد اصطدمت بالقرار الأمريكي الذي يرفض إنهاء العدوان على اليمن، فالإدارة الأمريكية لا تمانع من تهدئة مؤقتة وتجزيء للأزمات وتبريد لكل الملفات العالقة في المنطقة؛ ولكنها ضد التوصل إلى حلول نهائية في الملف السعودي - الإيراني أو السعودي - السوري أو السعودي - اليمني.
كلما رهن ابن سلمان قراراته بالموافقة الأمريكية، يغرق أكثر في وحل المصالح الغربية، التي في رأس أولوياتها استنزاف المملكة السعودية، وتوريطها أكثر في صراعات لن تجني منها على المدى الطويل سوى الأزمات الاقتصادية والانهيار الذي لن تكون نتائجه أقل من تقسيم المملكة إلى دويلات يستفرد فيها الغرب بالنفط والثروات وتحقيق المصالح الصهيونية. وقد بدأ مخطط تمزيق السعودية بعد الترويج لفكرة "الإسلام المعتدل" وتنفيذ الخريطة المكونة من 4 دول، التي رسمها "نايكون رالف بيترس". وبحسب مخطط التقسيم فإن مكة والمدينة ستكون دولة دينية "سنية" تدار من خلال كيان ديني مثل الفاتيكان في أوروبا، ودولة الترفيه والانحلال والاستثمار السياحي ستكون عاصمتها الرياض، وهي بمثابة عاصمة لمشروع ما يطلق عليه حالياً "الإسلام المعتدل"، فيما ستخصص بقية أراضي المملكة لمشروع ما يسمى "إسرائيل الكبرى"، وأما القطيف والدمام فستقام فيها دولة شيعية.
مشروع تقسيم المملكة يجري بوتيرة عالية، ومحمد بن سلمان أعجز من أن يتحرر من الخضوع للهيمنة الأمريكية، وإعلانه الفشل في الحصول على ضوء أخضر من واشنطن للمضي قدماً في التوصل إلى حل نهائي في اليمن دليل على ضعف موقفه، رغم حصوله على كل إشارات الدعم القادمة من صنعاء لإحلال السلام، وعلى رأس تلك الإشارات خارطة الطريق التي قدمها السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي تحت عنوان "محددات السلام"، في خطابه بالذكرى الثامنة للعدوان على اليمن "اليوم الوطني للصمود". وحدد السيد القائد خطوات طريق السلام المتمثلة في إيقاف العدوان ورفع الحصار، وإنهاء الاحتلال، وإعادة الإعمار، وتعويض الأضرار، وإكمال عملية تبادل الأسرى، باعتبارها محددات موضوعية وضرورية لتحقيق السلام العادل.
كيف يمكن أن نفهم عدم التقدم في الملف اليمني بعد أن مدت صنعاء يد السلام وحدد قائد ثورتها خارطة الطريق التي تدرك الرياض استحالة تحقيق السلام قبل تنفيذ هذه المحددات الواضحة والصريحة والتي لا تحتاج إلى أي ملحقات تفسيرية. وعدا عن عدم التقدم في الملف السياسي أو العسكري، هناك استنتاج لدى صنعاء كشف عنه نائب رئيس حكومة "الإنقاذ الوطني" لشؤون الدفاع والأمن، الفريق جلال الرويشان، مفاده أن المملكة تراهن على كسب المزيد من الوقت ونشطت في الداخل اليمني من خلال مشاريع تفتيت اليمن وتجزئته، ومحاولة كسب نقاط تفاوضية مستقبلية في مواجهة صنعاء، وهو ما يستدعي مراجعة السعودية حساباتها للخروج من ورطتها في اليمن، من أجل التوجه إلى مشاريع ابن سلمان الاقتصادية، إذ لا يمكن للمملكة أن تسير بخططها الاقتصادية في ظل استمرار العدوان على اليمن؛ لأن صنعاء اليوم بات بمقدورها منع الاستثمار وتدفق الأموال إلى السعودية، وقوة صنعاء العسكرية أصبحت قادرة على التحكم بموانئ التصدير وشركات الإنتاج السعودية.
رغم كل المخاطر التي تحدق بالمملكة في حال استمرارها بالعدوان على اليمن، إلا أن الهيمنة الأمريكية على القرار السعودي أقوى من أي وقت مضى في تاريخ المملكة، خلافاً لما تروج له الأبواق الإعلامية الخليجية، والسعودية خصوصاً، التي تروج لادعاءات لا صحة لها عن تمرد ابن سلمان على الإدارة الأمريكية، كيف يمكن أن يكون ابن سلمان قد تمرد والمبعوث الأمريكي يعطل كل مسارات السلام في اليمن، والسعودية لا تجرؤ على اتخاذ موقف واحد؟! كيف يكون قد تمرد وهو في قمة الجامعة العربية، التي عادت إلى سورية، يستضيف الرئيس الأوكراني "زيلينسكي" لإرضاء الغرب وأمريكا؟! أين يكمن التمرد والسعودية تتصالح مع إيران وتتقارب معها والإعلام السعودي يهاجم الجمهورية الإسلامية ويتهمها زوراً بدعم أنصار الله وإرسال المخدرات لتمويل الحرب ضد المملكة؟!
واشنطن تعتبر أن أي تقارب بين دول المنطقة يشكل تهديداً لوجودها غير المشروع في منطقتنا. ومن الطبيعي أنه في حال تقارب دول المنطقة لن يكون هناك أي حاجة للتواجد العسكري الأمريكي المزعزع للاستقرار، والذي يستنزف ميزانياتها ويسرق ثرواتها، ويمنع أي فرص لتنميتها وتطورها، وهذا ما انكشف في ردود الفعل الأمريكية و"الإسرائيلية" عند إعلان الاتفاق الإيراني - السعودي، من خلال التشكيك بالاتفاق ومحاولات إجهاضه بكل الوسائل الممكنة، خشية من أي تراجع للدور الأمريكي - "الإسرائيلي" عبر السعودية، التي تعتبر المشغل والوكيل الحصري لذلك الدور في اليمن وسورية والعراق والسودان ولبنان وغيرها من دول المنطقة.
صحيح أن الاتفاق السعودي - الإيراني لم يتطرق إلى أي من ملفات المنطقة، إلا أنه ونظراً إلى الدور المحوري لإيران والسعودية الهام في المنطقة، فمن المؤكد أن الاتفاق سيؤثر بشكل إيجابي في جميع ملفات المنطقة، وهذا ما ترفضه أمريكا والكيان "الإسرائيلي".
* نقلا عن : لا ميديا