كل الوقائع والمعطيات الميدانية والعسكرية التي تتناول الوضع اليوم على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة مع لبنان، تفيد وبشكل واضح وأكيد، بأنّ هناك مواجهة عسكرية وبمستوى غير بسيط، تجري على هذه الحدود بين المقاومة وبين وحدات العدو «الإسرائيلي»، وبأنّ هناك اشتباكاً عنيفاً يحصل بين الطرفين، تُستخدم فيه أغلب القدرات العسكرية والأسلحة الممكنة، والتي تكون عادة أساسية وتستعمل في كل مواجهة بين جيشين أو طرفين عسكريين.
هناك عدة تساؤلات تطرح نفسها حول عنوان هذه المواجهة، وحول إمكان توصيفها بحرب بين «إسرائيل» وبين حزب الله، خاصة في ظل التزام الطرفين -حتى الآن- وبشكل تقريبي، بقواعد اشتباك، حددها الطرفان ضمناً استناداً إلى مسار سابق من المعادلات والأطر، وفرضتها وتفرضها تطورات الميدان وحركته، اليوم، انطلاقاً من عدّة معايير تسهم في ضبط هذه المواجهة.
المعايير التي تفرض قواعد الاشتباك هذه، يمكن تحديدها بالآتي:
- الالتزام بالمواجهة والأعمال القتالية في ميدان محدد ومقيد جغرافياً، يتراوح بين مسافة صفر إلى مسافة بعض الكيلومترات، تحددها طبيعة الأرض ومجالات الرؤية الطبيعية وجغرافية بُعد مواقع العدو العسكرية أو قُربها من الحدود.
- عدم استهداف المدنيين والمنشآت المدنية، داخل لبنان أو داخل فلسطين المحتلة وفي المناطق الحدودية القريبة، مباشرة أو البعيدة داخل عمق لبنان أو فلسطين المحتلة.
في الواقع، يبدو أن تطورات الساعات والأيام الأخيرة من هذه المواجهة، تشير إلى أن «إسرائيل» قد تجاوزت هذه القواعد لناحية المعيارين.
أولاً، استهدفت «إسرائيل» -وبطريقة مجرمة ومتعمدة- سيارة مدنية فيها أطفال ونساء بشكل واضح وظاهر من دون أي التباس، لتعود وتستهدف أيضاً وبطريقة واضحة وعلنية سيارة إسعاف كانت تقوم بعملية إجلاء لمصابين سقطوا نتيجة اعتداء «إسرائيلي».
وثانياً، تجاوزت في اعتداءاتها واستهدافاتها الجوية والمدفعية ميدان قواعد الاشتباك لتطال داخل لبنان بعمق عشرات الكيلومترات في مناطق: جبل صافي وواديي السلوقي والحجير وسهل الزهراني.
من جهة أخرى، وفي متابعة دقيقة لاستراتيجية «إسرائيل» في هذه المواجهة، كان يبدو واضحاً أن «تل أبيب» تتجنّب فتح مواجهة واسعة أو حرب مع لبنان ومع حزب الله تحديداً، في ظل الحرب التي تخوضها اليوم على غزة. وذلك طبعاً لأسباب تتعلق بخوفها من تداعيات هذه الحرب ومما يمكن أن تسببه لها من خسائر، ولأنها تدرك جيداً أنها أمام هذه الحرب الواسعة مع لبنان ستكون عاجزة عن حماية عمقها ومنشآتها الاستراتيجية، المدنية والعسكرية، وأنها أيضاً ستكون مقصرة في تغطية كامل متطلباتها العسكرية من أسلحة (جو وبر وبحر ودفاع جوي)، بالإضافة طبعاً لموقف واشنطن غير المؤيد بتاتاً لتوسيع هذه المواجهة، والتي ستكون -برأي واشنطن- أبعد من حرب إقليمية.
من هنا، لماذا تخاطر «إسرائيل» إذن بتجاوز قواعد الاشتباك هذه؟ وذلك في ظل وجود هذا الخوف الأكيد لديها من تطور المواجهة مع لبنان إلى حرب واسعة، خاصة أن «تل أبيب» تفهم جيداً ثبات حزب الله على وجوب التزامها بقواعد الاشتباك والمعادلات التي وضعها وفرضها عليها حتى الآن.
عملياً، هناك أكثر من سبب يدفع «إسرائيل» إلى تجاوز قواعد الاشتباك والمخاطرة بتطور المواجهة إلى حرب واسعة:
أولاً: ما يجري عملياً على حدودها الشمالية تجاوز ما كانت تأمل به على مستوى الاشتباك، فحيث كانت ترى بأنها جاهزة لتحمّل مستوى معين من الأعمال القتالية ضد حزب الله، تكون خسائرها فيه محدودة أو متواضعة، وحيث كانت مستعدة لهذه الخسائر بديلاً تفضله، عوضاً عن خسائر ضخمة ستسقط لها بشكل مؤكد مع أي حرب مفتوحة أو مواجهة واسعة، وجدت نفسها في موقف خاسر وصعب، مع سقوط متواصل ومتصاعد لعدد كبير من جنودها، وذلك بعد أن فرض عليها حزب الله مستوى صادماً من الأعمال القتالية ومن الاستهدافات النوعية، غير بعيد أبداً عن مستوى ونمط الأعمال القتالية التي تحصل عادة في أي حرب واسعة تقريباً.
ثانياً: بعد هذا النمط الذي فرضه عليها حزب الله من الأعمال القتالية الحاسمة، لناحية استهداف جنودها وآلياتها ومواقعها، وخاصة من خلال ما أظهره تباعاً من أسلحة وقدرات نوعية في الدفاع الجوي أو في المضاد للدروع أو في المسيّرات الانتحارية الانقضاضية أو في الصواريخ ذات القدرة التدميرية الكبيرة مثل بركان، لم تعد تجد نفسها قادرة على ضبط أو مسك جبهتها الشمالية، والتي كانت تحرص على إبقائها ممسوكة أو مضبوطة كي تتفرغ لحربها على غزة، ولما تتعرض له من ضغوط في الضفة الغربية، أو في الجنوب من ناحية الاستهدافات اليمنية الفعالة، ومع خسارتها القدرة على ضبط هذه الجبهة الشمالية، أصبحت غير قادرة على الاستمرار بهذا النزف العسكري والميداني والمعنوي بمواجهة حزب الله.
من هنا، وحيث بدأت «إسرائيل» تشعر بشكل مؤكد أن ما تخسره على جبهتها الشمالية، هو مؤثر بقوة وحاسم وفاصل نحو خسارتها الحرب على غزة، وفي الوقت الذي تتعثر فيه أصلاً داخل القطاع، وتتراكم فيه خسائرها من الجنود والضباط والآليات كلما اقتربت من مواقع الدفاع الرئيسة للمقاومة الفلسطينية في شمال القطاع، أصبحت معنية وبقوة في اتخاذ قرار يخرجها من مستنقع النزف الذي تعيشه على جبهتها الشمالية، وأصبحت معنية وبقوة، نحو إيجاد أي طريقة تخرج بها من دوامة «قواعد الاشتباك القاتلة» التي فرضها عليها حزب الله.
فهل تستسلم لهذا الواقع الميداني والعسكري الذي تعيشه على جبهتها الشمالية، متحملة خسائرها بديلاً عن مواجهة غامضة لا تعلم إلى أين يمكن أن تودي بها؟ أم ترفع السقف في توسيع دائرة استهداف المدنيين والمنشآت المدنية داخل لبنان بهدف الضغط على حزب الله لتخفيف ضغوطه العسكرية على جبهتها الشمالية، ويكون في ذلك مخاطرة كبيرة لتطور المواجهة إلى حرب واسعة لا تريدها أصلاً؟
يبدو أن الأمريكيين بدأوا يتلمسون خطورة هذه الحرب التي رعوها ودعموها على غزة، والتي ارتبطت بها كل الضغوط والمواجهات التي تعجّ بها المنطقة اليوم، وكل الأخطار الجدية التي بدأت تؤسس بقوة لحرب واسعة، فهل تنطلق قريباً استراتيجيتهم نحو إنزال «إسرائيل» عن الشجرة، وهم معها طبعاً، والذهاب نحو إنهاء الحرب على غزة والبحث الجدي في تسوية معقولة؟
لأنّ الوقت بدأ فعلاً يداهم الأمريكيين و»الإسرائيليين»، ربما لن يتأخر كثيراً أوان الإجابة على هذا السؤال.
محلل عسكري واستراتيجي لبناني
* نقلا عن : لا ميديا