تأمل الأوراق المهترئة و قلبها بيديه المتسختين، إنها أجمل لحظاته بعد يوم شاق من التعب، أسرع نحو إحدى البقالات، أخذ يحدج ببصره في أصناف الأطعمة ذات الأغلفة الملونة الجذابة الموضوعة على الرفوف لبرهة، انتبه إلى صاحب البقالة يناديه ألقى ابتسامة فاترة عليه و أخذ كيسه على مضض و واصل طريقه، كانت الرياح تلفح جسده و لم تمنع ثيابه الخفيفة المليئة بالثقوب إحساسه بالبرد الذي جمد أطرافه، أسرع في خطاه عله يطوي تلك المسافة الطويلة، ها هو يصل أخيرا، ما إن سمع الأطفال وقع الأقدام حتى هبوا من فورهم يستقبلون القادم، أخذ الصغار يبطشون الكيس من يد أبيهم في لهفة، نهرتهم الأم و أخذت الكيس منهم، نظرت داخله و علا البؤس تقاسيم وجهها الذي حاولت إخفاءه وراء ابتسامة خافتة، وجهت لزوجها كلمات الامتنان و الشكر و علمت بأنها ستبيت ليلتها جائعة كسائر الأيام الماضية، قسمت أرغفة الخبز على صغارها الذين أكلوه بنهم شديد فلقد كانوا في انتظار هذه اللقيمات لساعات طوال، بسط الأطفال أجسادهم الهزيلة على الأرض و اقتربوا من بعضهم علهم يشعرون بالدفء، غطتهم الأم ببقايا البطانية المهترئة في حنان و سرعان ما غطوا في النوم.
و كالعادة أخذ زوجها يجملها بالصبر و يواسيها بأنها شدة و ستزول و أيام عصيبة سيعقبها الفرج...
عادت بها ذاكرتها إلى الماضي تذكرت منزلها الريفي البسيط الذي كان بالنسبة لها قصرا رغم بساطته، تلك المزرعة الصغيرة التي كان يعمل بها زوجها و التي كانت الرافد لهم بأصناف الخضار الطازجة و مصدرا للعيش و البيع ، عيش هانيء ممزوج براحة بال و سعادة كبيرة، كل ذلك تحول في غمضة عين إلى كابوس بشع خانق.
كان هروبا من موت محقق حين أرسلت طائرة العدوان صاروخا حول بيتهم إلى خراب و أحرق مزرعتهم و نجوا من ذلك بأعجوبة، و حينها بدأت مسيرة العذاب و رحلة البحث عن مأكل و مأوى، لجأوا إلى إحدى المدن حيث استطاعوا و بشق الأنفس إيجاد غرفة تأويهم و استطاع الأب إيجاد عمل بسيط يجلب عليه القليل من المال و الذي بالكاد يسد به رمق أطفاله الجوعى.
غفت الأم بينما قضى الأب ساعات ليله يؤرقه التفكير بالغد و هو يتأمل في ألم وجوه أطفاله الأحباء و وجه زوجته الغالية الذي اعتلاه الشحوب و اتشح بالحزن.
حينها و كالمعتاد رفع يديه نحو السماء و بدأ بمناجاة ربه و الشكوى إليه، فسرت طمأنينة عجيبة في قلبه و سكينة في روحه كأنما تقول له ( و بشر الصابرين ).