محمد التعزي / لا ميديا -
«بدر» بئر ماء تقع بين مكة والمدينة، تبعد عن المدينة المنورة 150كم، وقعت بالقرب منها المعركة الفاصلة بين طاغوت الشركة ورحمة الإسلام.
بتاريخ 17 من شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة، قاد سيد الخلق، رأس الإسلام، محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، جيش الإسلام، بينما قاد جيش الطاغوت والكفر والرجس عمرو بن هشام (أبو جهل).
معركة فاصلة بين الحق الذي يرفع علم التوحيد الذي يؤمن بالله خالق السماوات والأرض له الأمر من قبل ومن بعد قدر كل شيء بعدله المطلق بإرادة بصيرة راشدة تساوي بين الناس، فلا أحد أفضل من أحد إلّا بالتقوى والعمل الصالح، ولا نار إلّا لمن ينتقص حقوق الخلق ويخالف سنن الكون ويسعى في الأرض فساداً يظلم ويعيش إجراماً ضد فطرة الله التي فطر الناس عليها... أما الشرك فهو أن يعبد الإنسان طاغوت الباطل بما فيه من أوثان وأصنام وضلال يخالف سنن الخليقة ويحتكم لغير شرعة فاطر السماوات والأرض وما بينهما، يحتكم فيه للقوي الذي ينتصر ضد الضعيف ويستبد الغني بالفقير، لا يرى من قيمة للإنسان إلّا إذا كان ظالماً، لا يرى جمال الحياة إلّا إذا ساد فيها بطش الطاغوت بكل مخلوق سواءً أكان حيواناً أو إنساناً!
كانت «غزوة بدر» واقعة فاصلة ومفصلية تقابل فيها طرفان وتقاتل فيها ضدان، طرف شرك يتخذ الغيّ سبيلاً وفساداً، مُؤلّلا بالكبر والغرور والجهالة والمجد الشيطاني الغشوم الزاهي بالصلف والمزهو بالرياء والبطر الفاحش المعوج يستهين بالحق ولا يرى الأشياء إلّا من منظور القوة الغشوم والأنانية الفاسدة المريضة، وطرف مستضعف سلبه سادة الشرك ما يملك من مال وكرامة وحقوق، ففارق ملاعب الصبا ومرابع الذكريات بما فيها من خير وشوق وفطرة.
إن بدر معركة فاصلة، لأنها تؤكد سنن الخلق تلك التي تقضي في سابق علم الله أزلاً بأن الظلم قابل للزوال، وأن الله سينتصر للمظلوم من الظالم ولو بعد حين، وأن الحق لا بد أن يكون منصوراً ضد الباطل وأن الأيام دول.
كانت الهجرة من مكة إلى مدينة الأنوار تحولاً مفصلياً في تاريخ الإسلام، بل في تاريخ الإنسانية من أول ساعة خلق الله الكون، ولم تكون الهجرة هرباً من قتل وبطش وكيد، بل استعدادا لإظهار حق وتظهير كلمة الله ضد باطل تأباه الفطرة المطلقة والخلقة الرشيدة، ولم تكن دار الهجرة إلّا تكثيراً وفرصة للذين يرون الحياة السعيدة في الأولى والأخرى تحت ظلال السيوف، وألا كرامة ولا مروءة لضعاف الإرادة وصغار الهمم الذين يعيشون الحياة يتعبدون الذل قرباناً للطاغوت الباطل.
كانت الهجرة استعداداً للثأر من أمة غواية وطغمة مستبدة ظالمة، حق ترجوه أمة تطمع في العدل والمساواة والحرية، حق يؤيده المنطق وتؤمن به قوانين الأرض وشرائع السماء، فماذا حدث؟!
كانت الهجرة من مكة إلى المدينة إعادة صياغة للإنسان، الذي ولفترة طويلة من القرون غلبت عليه سنة الظلم والهوان واحتقار الإنسان لكونه فقيراً أو مغمور نسب أو ضعيف بنية أو كَسِيْر نفس، ليصبح إنساناً يأبى الظلم ويحتقر الباطل ويمقت العلو في الأرض على أساس انتماء قبلي أو طائفي أو «نَسَبِي». تكفل المسجد النبوي بإعداد الجيش، خريج أعظم وأفضل معلم ونبي سيدنا محمد رسول الله، لينطلق صبيحة يوم الاثنين 17 من شهر رمضان السنة الثانية من هجرته الشريفة. لم يكن الباعث استرداد بعض حق سلبته قريش من أمة مستضعفة، كان عليها أن تبذل مالها في سبيل بقاء حياتها أو الموت وحسب، ولكن لإعلان أنه حال الحال إلى آخر، وهو إعلان الفرقان لإعلاء كلمة الله خالق الكون كله وأنه الجدير بالعبادة، الذي يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ويأمر بالمساواة بين الخلق، فلا فضل لإنسان على آخر إلّا بالتقوى والعمل الصالح وحسب!!
استعظمت قريش خروج أمة فقيرة مضطهدة ترى أن «رويعي الغنم» ابن مسعود يطمع أن ينافس عمرو بن هشام والوليد بن المغيرة وأبا سفيان بن حرب في منصب أو ثروة وسيادة، وأن يبلغ بها تحدي مكة، إلى درجة أن يعترض هؤلاء أصحاب محمد من الخوارج المطرودين سفهاء القوم وأراذلهم بادي الرأي قافلة هي عنوان سيادة مكة، الدرة النفيسة في تاج العروبة العريقة التليدة قد جمعت خيلها ورجلها انتصاراً للأصنام والأوثان وجبروت القوة وطاغوت الشرك المقيت.
ليلة الأحد الاثنين من شهر رمضان ظل سيدنا النبي الكريم عليه صلاة الله وسلامه يدعو ربه الواحد الأحد أن ينصره ويكبت عدو الله وعدوه، ويلهج بهذا الدعاء الذي يصح أن يكون شعاراً لمعركة بدر والهدف من نفير الإسلام إلى بدر: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد»، فما لبث شروق صباح الاثنين 17 من رمضان حتى نفذت طعنات الإسلام في صدور الشرك والكفر وتنزلت الملائكة تقاتل إلى جانب المسلمين تقتل فريقاً وتأسر فريقاً، ويلقي الله السكينة في قلوب المجاهدين وتسحّ السماء سحابها لتثبت الأقدام وتهون حرارة ضربات السيوف، ويكبت الأعداء ويمحق كيد الكافرين!
قتل من المشركين 70 رجلاً، وأسر منهم القادة الكبار، واستشهد من المسلمين 14 شهيداً.
يذهب بعض الذين لم يفقهوا سيرة بدر إلى أن المسلمين في بدر لم يكونوا غير قطّاع طرق وناهبي حقوق للغير، وهو قول مردود ومكذوب
لا خير أن يكون الهدف الرئيس أو الفرعي أن يعرض المسلمون ومعهم نبيهم الكريم لقافلة قريش ليستردوا بعض ما أخذ غصباً مما لهم لأنهم تخلوا عن عبادة الأصنام والأوثان ودانوا بدين الحق لله الواحد القهار.
إن طبيعة الإنسان وفطرة الله التي فطر الناس عليها أن يغالب الإنسان -أو الحيوان- إنساناً يريد أخذ ماله غاصباً وناهباً، فمن حق الإنسان ألا يخضع لطاغوت ينهب ماله وأن يعبث بكرامته، وليكون القتال وإرادة مصادرة قافلة الشرك حقاً من حقوق الأمة المستضعفة المضامة، ونتيجة من نتائج دروس مدرسة النبي الذي وضع الجهاد بأمر الله قيمة كريمة من قيم الإسلام الخالد وأهدافه الفاضلة النبيلة على مر الزمن والدهور، فما هي الدروس المستخلصة من معركة بدر الفيصل؟
لقد أذن الله للنبي والمؤمنين أن يخرجوا للجهاد في سبيله وإعلاء كلمته، فتجهز جيش النبوة.
كانت الهجرة من مكة شرفها الله منطلق هذا التحول، فلا يمكن استرداد حق يتركه أصحابه دون عقيدة تشكل بارود الانفجار وتمنح هؤلاء الصحابة إيماناً راسخاً بما يعتقدون وعن ماذا ينافخون ويذودون، فكان المسجد الذي بني على مساحة أيتام اشتراه منهم الرسول بحر ماله مدرسة علمت المسلم المستضعف أن الجهاد فريضة، وأن دار الهجرة لم تكن فرصة لتكثير الهاربين من اضطهاد مكة، وإنما كانت دار الهجرة مرحلة إعداد لمقاتل باع لله نفسه مقابل جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الصابرين الذين يرون الجنة تحت ظلال سيوفهم، جزاءً لدم مراق وروح ترقى للسماوات وأجساد تمقت السبات، تبيت لربها ساجدة قائمة آناء الليل وأطراف النهار. أما الثأر من ظلم عاث واسترداد حق مصادر وتنشئة لاعتبار سليب فهو حق يؤيده المنطق وتؤمن به شرائع السماء وقوانين الأرض، فماذا حدث في بدر؟