محمد القيرعي / لا ميديا -
«طالما مازلت أتنفس، سأظل أناضل من أجل المستقبل» الرفيق ليون تروتسكي، أثناء عيشه مرارة المنفى في سيبيريا.
إنه المبدأ الذي ينطبق بجلاء من وجهة نظري على حركة المقاومة الفلسطينية حماس، الصامدة والمثابرة، والتي تلقت في الساعات الأولى من صبيحة يوم الأربعاء الفائت، بوصفها باكورة المقاومة الوطنية الفلسطينية، ضربة موجعة ومؤلمة في الصميم عبر إقدام دولة الكيان «الإسرائيلي» على اغتيال رأس حربة المقاومة، الشهيد إسماعيل هنية، وبذلك الشكل الغادر والغارق في البربرية الذي ميز ويميز دوما أساليب الصهاينة في خوض حروبهم والتعامل مع خصومهم.
لكن المفيد في المسألة رغم مأساوية الحدث، يكمن في كون الفلسطينيين معتادين (كشعب) على الوجع والمفاجآت الصادمة أكثر من غيرهم.
وميزة الوجع الفلسطيني تكمن أيضا في قدرته وفاعليته على شحذ وتحفيز هممهم وعزائمهم الكفاحية، على عكس العديد من الشعوب والحركات التحررية والثورية التي تتهاوى عادة مع أي ضربة أو كارثة شبيهة ومؤثرة. فالوجع الفلسطيني هو الزاد الذي مكنهم وعلى مدى سبعة عقود زمنية مضنية من استلهام سبل وطرائق الاستبسال والمقاومة الوطنية التي تزداد بأسا وضراوة كلما ازداد وجع الفلسطينيين وتشعبت مأساتهم ومعاناتهم القومية، إلى الحد الذي باتوا يقدمون معه لنا وللعالم أجمع دروسا يومية وصورا أعمق عن المعنى الحقيقي للتضحية والاستبسال الوطني بصورة يندر وجودها حقا، ما يعني بالتأكيد أن رحيل واستشهاد القائد إسماعيل هنية، ورغم وقعه المؤسف علينا جميعا، وليس على الفلسطينيين فحسب، لن يؤثر بالمطلق على صمود وتماسك وفاعلية المقاومة الفلسطينية، وعلى حركة حماس تحديدا، التي برهنت، ومن خلال مجمل الأحداث اللصيقة بنشأتها الحركية وبتاريخها الكفاحي، على طابعها المؤسسي المرن والمتين أمام أسوأ الصدمات المفاجئة، والذي منحها نوعا من المناعة المكتسبة التي جنبتها مغبة الانزلاق في براثن الأوهام الثورية المتولدة من أنماط القيادة الصنمية (البونابرتية) المتبعة في عالمنا العربي والإسلامي تحديدا، والتي تحدد في جانبها الأعم مصير ومستقبل الحركات السياسية والثورية، وحتى أنظمة الحكم الوطني بمصير قادتها ورموزها الأوائل.
فحركة حماس، ومنذ اغتيال مؤسسها الأول الشيخ أحمد ياسين، وخلفه آنذاك الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، الذي اغتيل بعده بأيام قلائل، وصولا إلى استشهاد إسماعيل هنية، لم تشهد أي فراغ قيادي أو تعاني من أي شكل من أشكال الصراعات والتنافس الحركي الداخلي الناجم عن أحداث وصدمات كتلك، مثلما لم يعقها الحصار والجبن وشحة الإمكانيات والمؤامرات الدنيئة والمفضوحة للعديد من أنظمة الحكم العربي الموالية للكيان الصهيوني والهادفة إلى وأد كفاحها أو الحد منه، عن أن تتربع مركز الصدارة الوطنية في عملية الكفاح السياسي والجماهيري الثوري للشعب الفلسطيني، لأنها مكرسة في الأساس (كحركة تحرر وطني)، ومنذ لحظات نشأتها الأولى، لمقاومة العدو وإذلاله، في سبيل استعادة حقوق وكرامة شعبها المستلبة، وليس للمحاصصة الحركية القائمة على تكريس المغانم الشللية والشخصية لقادتها بالصورة السائدة والمتبعة في أغلب التنظيمات والحركات الثورية الفلسطينية التي بلغت مرحلة الإفلاس والتعثر الكفاحي الفعلي عند هذا المنحى.
هذا الأمر جعل من كل فرد في حماس مؤهلا لاكتساب خصائص القيادة الحركية الكفؤة، وجاهزا لسد أي فراغ قيادي قد ينشأ، سواء على المستوى الهرمي القيادي الأعلى أو على الصعيد الميداني، لا فرق.
في النهاية، رحل هنية كما رحل عشرات ومئات القادة الوطنيين قبله؛ لكن القضية الفلسطينية باقية بالتأكيد، وهو أمر بات يدركه العدو، مثلما يدرك أيضا أن الدماء المراقة للشهيد هنية ولغيره من أسود وبواسل المقاومة، سواء في فلسطين أو لبنان أو اليمن، سيكون لها ثمنها المدفوع من أمنه واستقراره ومن تماسك كيانه الهش ومن دماء جنوده ومواطنيه الدخلاء على أرضنا وتراثنا وتاريخنا وقيمنا العروبية التي لا تشبه أبدا قيم أزلامه وكلابه المدللة في الخليج الفارسي وتخومه المتخم بالعمالة والارتزاق.