أحمد عز الدين / لا ميديا -
تكتب متأخرا لظروف خاصة، لكنك للأسف لا تستطيع أن تبدأ من حيث انتهيت، ولا سبيل سوى الدخول مباشرة إلى اللحظة الراهنة، على أن تجد فوق شواهدها ما يستحق التوقف عند ما تراكم على يد الوقت.
أعترف أن أكثر ما استحق التوقف والانتباه عندي في كل ما قرأته خلال الأسابيع الأخيرة، ذلك الذي كتبه فيلسوف غربي توصيفا لمنتوج الحرب على غزة، فقد مر توصيفه عبر كلمتين اثنتين هما «معجزة غزة». أما أسباب التوقف والانتباه فهي عديدة، في مقدمتها أن كلمة «المعجزة» لم ترد -فيما أحسب- في التاريخ العسكري الغربي لتوصيف منتوج مواجهة عسكرية إلا مرة استثنائية واحدة، هي ما أطلق عليه «معجزة آل براندبرج»، عندما تعرضت ألمانيا لحملة عسكرية قوامها جيوش ثلاث دول هي روسيا وفرنسا والنمسا، بينما كان الخلل في موازين القوى العسكرية بين الجانبين يتسع لخمسين ضعفا (1 إلى 50) لصالح الجيوش الثلاثة، لكن ملك ألمانيا فريدريك الثاني أدار معركة دفاعية صلبة، كان وقودها المتجدد ترميم أوضاعه الدفاعية مع التمسك الثابت بإرادة القتال. لكن «معجزة آل براندبرج» لم تكتمل إلا بوفاة إمبراطورة روسيا إليزابيث وصعود وريثها بيتر، الذي أوقف الحرب، بينما تكتمل أو تكاد «معجزة غزة» دون أن يغيب بايدن أو يختفي نتنياهو.
وهكذا فإننا في حالة غزة أمام تفسير عقل غربي كبير، لا يجد بديلاً عن تعبير «المعجزة»؛ لأن ما يتخلق أمامه يبدو له خارج المتوقع والمنتظر أو المحتمل وخارج موازين القوى، بل ربما خارج قوانين الطبيعة، وبالتالي فهو ليس قابلاً للفهم ولا للمنطق ولا للحساب، إضافة إلى أن التعبير نفسه في الميثولوجيا الغربية يبدأ من حيث ينتهي ما هو بشري، لينتسب إلى قوى ما وراء الطبيعة.
والحقيقة أن تعبير «المعجزة» في حالة غزة يعني ما هو أبعد من ذلك، فهو يعني أننا أمام عقل غربي تواجه خلاياه الحية نوعاً من الصدمة، فضلاً عن أنها لم تعد قادرة على استيعاب وهضم ما أصبح واقعاً، خاصة هذا الكائن الفلسطيني الذي ينتصب مقاتلاً بين أنقاض البيوت وبرك الدم وتلال الشهداء، بأسلحته البسيطة، متحدياً الغرب كله تقريباً بقوة نيرانه الأكثر تطوراً وقدرة على التدمير والإبادة، وكأنه أحد الآلهة في الإلياذة أو غيرها من الأساطير التي شكلت أحد المصادر الثلاثة في المكون الثقافي التاريخي للغرب.
ورغم أنني لا أميل إلى تعبير «معجزة غزة»، الذي يمكن أن يصبح عملة غربية قابلة للتداول على أساس أن غزة حالة عربية خاصة واستثنائية وغير قابلة للتكرار، فإنني أعتبر التعبير نفسه جزءاً من «إشعاع غزة»، نعم، فقد أصبحت غزة معدناً مشعاً يستطيع إشعاعه الكهرومغناطيسي أن يطوي الآفاق ويعبر المحيطات ويصل إلى أوروبا والولايات المتحدة نفسها، ليحرك أحجار العقول والقلوب الساكنة، دافعاً موجة من الرفض والغضب، عمقها أكبر من سطحها بكثير، وهو دون شك إشعاع كاشف يضيء آفاقاً إقليمية ودولية كاملة، بأعماقها وسلطاتها وطبقاتها وموازينها، وقواها الصاعدة والهابطة، وخطوطها المحفورة تحت الجلد، وتأثيره دون شك قادم وعاصف، فهو دون مبالغة يشكل نقطة تحول بين مرحلتين تاريخيتين، وبيئتين إقليمية ودولية، وإن كان هذا بحث آخر، مع أن بعض مفرداته تكاد أن تتطابق مع رؤية مفكر أمريكي آخر، والذي عد غزة بالفعل برزخاً بين تاريخين.
لكن السؤال: كيف استطاع إشعاع غزة أن يخترق هذه الكتلة الثابتة الهائلة من تراكم الأكاذيب والخداع، والتي ما تزال تقوم على حراستها قوة المال وقوة السلطة وقوة الأمن وقوة الإعلام؟
لقد سبق وأن كتبت في وقت سابق عن آخر تقرير كتبه رئيس المخابرات الأمريكية الأسبق جورج تينت، عن مستقبل «الشرق الأوسط»، وقد وضع المخاطر التي تواجهه في أجيال صاعدة، تمثل خميرة الغضب والتمرد والتغيير، بعد أن امتلكت تكنولوجيا المعلومات، خاصة وأنها تشكل جمهوراً واسعاً يعاني من البطالة بينما لا قيادة له ولا إطار تنظيمياً.
لقد نظر العقل الغربي، حتى داخل قمة مؤسساته الأمنية، إلى جانب واحد من المعادلة، وهو التأثير الكبير والتلقائي القادم من الغرب باسم العولمة، والقادر على تحريك الأحجار في بيئة الشرق الأوسط، بسبب تكنولوجيا المعلومات وتأثيرها المتعاظم والخطير على الأجيال الصاعدة، وقد سعى إلى توظيفها كمفجر للصدام. لكنه لم يدرك أن هناك تأثيراً عكسياً مضاداً من «الشرق الأوسط» إلى الغرب، يمكن أن يكون قابلاً للحدوث. نحن إذن أمام وجه آخر للعولمة التي أرادها وصممها وأدارها الغرب، يمكن أن نطلق عليه «مقلوب العولمة» أو «العولمة المعكوسة»، وقد وصلت إلى حالة لا تقل تأثيراً وفاعلية عن العولمة نفسها، حد أن «إشعاع غزة» سيقف في طوابير الاقتراع في كافة الانتخابات الغربية القادمة، ولن يكون مستغرباً أن يلعب دور الصوت المرجح لنتائج أي من هذه الانتخابات.
لذلك فإن حالة القمع غير المسبوقة التي تواجه بها السلطات في أمريكا والغرب تأثير «إشعاع غزة»، في دوائر جامعية واسعة باستخدام القوة لإسكات الأصوات، لا يعني فقط أن شبكات الإعلام قد فقدت كثيراً من فاعليتها، ولا أن خطاب السلطات نفسها قد أصبح متهافتاً ومراوغاً، ولا يتمتع بالمصداقية، بقدر ما يعني انكشاف هذه الواجهات الأمريكية والغربية عموماً، التي تضيئها مصابيح الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
إن الغرب بات يبدو في مرايا أجياله الجديدة كاذباً ومزوراً وقاتلاً، وهو أمر يتضاعف معه الخوف من أن يتحول تيار الغضب والرفض من ساحات الجامعات إلى الساحات العامة. مع هذا فإنني لا أعتقد أن هذا وقت تتبع تأثير «إشعاع غزة» داخل «إسرائيل» ذاتها هو بالغ الوضوح انقساماً وصداماً وتفككاً، وحتى على مستوى البيئة الإقليمية، فالخوف من علم فلسطيني في يد عابر سبيل في بعض دول الخليج أكثر وضوحاً، ومظاهر الانحناء المذل أمام الولايات المتحدة من بعض هذه الدول حد طلب الحماية أكثر بينة. كما أن بعض الإجراءات التي تبدو غامضة في بعض الدول تعبر بنفسها عن ذلك، بل إن هذه الحملات التي اتسعت فوق بعض المنصات الإعلامية، ومواقع التواصل الاجتماعي، ساعية لتحقير المقاومة وذمها، واتهامها بأنها أدخلت الإقليم إلى حريق كبير، لا تعبر عن قناعة فكرية، أو انحياز سياسي، أكثر مما تعبر عن المخاوف، فقد أصبح الخوف من غزة عند البعض أكبر من الخوف على غزة.
ولهذا كله فإن الهدف الأول والجوهري الآن، أمريكياً وغربياً، بل وإقليمياً، هو إيقاف تأثير «إشعاع غزة»، أو تحديداً تجريد غزة من إشعاعها. من أجل ذلك تجند الولايات المتحدة كل طاقاتها الضاغطة على كافة المستويات، لفرض اتفاق تهدئة موقوتة، ريثما يتم البحث عن مخرج من الأزمة المركّبة التي وضعت أمريكا و«إسرائيل» نفسيهما فيها ومعهما الإقليم، وذلك في ضوء عنصرين أساسين حاكمين، هما: عنصر الردع الذي ترنح، وعنصر الوقت الذي انضم إلى معسكر المقاومة.